معركة الفلسفة ضدَّ الزُّومبي..
محنة الفلسفة هي محنة ضد العبودية والاستغلال والاستبداد والاستحمار، وهي معركة ضد الكذب والزور والخداع والتدليس وكل أضداد الحقيقة، ورغبة قوى الشر في استبلاد الإنسان، وتركه مُحطما في ظلام كهف الشقاء.. وتثبيت الإنسان في القصور الدائم، والحيلولة بينه وبين عقله لمنعه من بلوغ الرشد الفكري والنضج الوجداني.. والاسترجاع المستمر لإنسانيته وحقوقه. عبر هذا المقال سنتطرق إلى محنة الفلسفة مع “الزومبي”.. ولماذا هناك إصرار من طرف “قوى الشر العالمية” على مسخ البشر إلى قطيع من الزومبي، وتدمير القيم الإنسانية السامية، والانحطاط بالوجود الإنساني أسفل من وضع الحيوانات غير العاقلة، والإعلاء من مكانة مختلف الظواهر الشاذة، وتقديس الجنون وتمجدي التفاهة، واختزال الإنسان في الفاعلية الغريزية.. الغاية هي الانقضاض على العقل وعلى كل من يطالبون بالحق في ممارسة التفكير، لتمكين قوى الشر العالمية من احتكار السلطة والثروة والنفوذ، واستعباد الجماهير عبر تخديرها بالتفاهات، وإحكام السيطرة عليها وذلك باختطاف جوهر وجودها: العقل، وهنا أستعير مقولة جاك دريدا “الديمقراطية التي تخسر الفلسفة هي ديمقراطية في خطر” لأقول “الشعوب التي تخسر عقولها هي شعوب في خطر”. الحرب على الفلسفة اليوم في العالم العربي، لم تعد تعتمد على توظيف “المقدّس الديني” على غرار الصراع المُفتعل بين الدين والفلسفة، وخير مثال “محنة الفيلسوف ابن رشد”.. اليوم انتقلنا إلى نظام التفاهة المقدّسة.. ونحن على مشارف أفول وموت الفلسفة.. وقتلتها هم جحافل الزومبي الأحياء الموات.. التاريخ البشري مُشبع بالكذب، غارق في الكذب.. الكذب الاجتماعي، الكذب الوجداني، الكذب العِرْقي، الكذب الهوياتي، الكذب الثقافي.. الكذب الفني (لهذا أبعد أفلاطون الشعراء من مدينته) الكذب الاقتصادي، الكذب السياسي.. هذا التاريخ المهول من الكذب هو الذي جعل الفيلسوف جاك دريدا يكتب مؤلفه “تاريخ الكذب”.. الكذب حسب دريدا “يختلف تماما عن الخطأ، فبوسعنا أن نخطئ، بل أن ننطق بكلام خاطئ دون أن يكون الهدف من ذلك خداع الآخرين، أي الكذب عليه، التجارب المتعلقة بالكذب والخداع والخطأ se tromper تدخل كلها في إطار مقولة البسودولوجيا، مفردة Pseudos في اللغة اليونانية قد تصدق بالإضافة إلى الكذب، على الزور والحيلة والخطأ والتدليس..”. محنة الفلسفة هي محنة الإنسان الذي يُناضِلُ من أجل حقِّه في إعمال عقله، وتشجيع الناس على استخدام عقولهم، من أجل انتزاع حقه في حياة جيدة، وليس كما يدّعي أدعياء التفلسف هو القدرة على الحوار فقط. لحُسْن الحظ هناك مرْهم واحِدٌ فعّال لزيادة حجم العقل الإنساني ونجاعته وفعاليته وإمكاناته، هذا المرهم هو ممارسة التفكير، ومُساءلة الأفكار الجاهزة والقناعات والمعتقدات، بواسطة الحوار المتمدّن الهادئ، الذي يروم بلوغ الحقيقة دون تحامل أو تساهل، بالنقد البناء ورفض الوصاية بكل أشكالها، الوصاية السياسية والوصاية الدينية والوصاية الاقتصادية… هكذا فالفلسفة ليست هي سقراط وأرسطو وليست هي ديكارت وكانط ولا هي هايدغر وأرندت وسارتر وهابرماس.. الفلسفة هي تجسيد للماهية الأصلية للإنسان، هي الخاصية الأكثر التصاقا بالإنسان: القدرة على التفكير والقدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، الصدق والكذب، الكرامة والمهانة، العبودية والحرية، الحقيقة والوهم، الخير والشر، والسعادة والشقاء. الفلسفة هي إدراك لمُمْكنات الإنسان، ووعيه بحريته وكرامته.. ومن هنا تحديدا بدأت حكاية تراجيديا الإنسان تُجاه القوى التي تُريد استعباده، بالأساطير التي تطورت إلى أساطير معاصرة، تغيرت ملابسُ كَهنتها ولم تتغير إرادتهم في استعباد البشر، وعلاقة الأديان وسدنة المُقدّس الديني بمأساة الإنسان وآلامه رهيبة جدا، تطورت معها طيلة قرون سحيقة طرق وتقنيات التعذيب، بما فيها توظيف القانون في الممارسة السياسية لتصفية الخصوم ليست بالجديدة، فأتينا اليوناينة الدولة الأقدم تجسيدا للديمقراطية الشكلية، أعدمت الفيلسوف سقراط بآليات ديمقراطية شكلية. سبق للمفكر عبد الرحمن الكواكبي أن فضح في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” دهاء سلطة الاستبداد ومآلاتها، واستـثْمارها في “الكذب المُقدَّس” لنشر الجهل والظلام، وحرمان الجماهير من ممارسة التفكير بعد استئصال وعيها وقدرتها على التمييز بين الحقائق والأوهام.. وبالتالي إحكام السيطرة عليها واستعبادها.. والخطير هو إلباس “الكذب السياسي” لباس القداسة مما يجعله محميا من “العامّة” والبسطاء والغوغاء والدهماء، وهذا ما يُصعِّب وظيفة “الخاصّة” التي تُريد إخراج الجماهير من “كهف الظلام” إلى “سماء الأنورا”.. نحن أمام اختلاف بين هويتين، هوية يُحرّكُها العقل والبحث عن الحقيقة، وهوية مدفوعة بالأهواء والجهالة العمياء، إنه اختلاف الانتماء والاختيار واتخاذ القرار، بتعبير الفيلسوف طوسكانو، مادام وجود أشخاص يفكرون داخل مجتمع يرفض التفكير، مجتمع القطيع المقدّس.. هو الطريق الآمن لصناعة العبيد.. لماذا القطيع؟ القطيع سهل الترويض، ينقاد بلا مساءلة ولا انتقاد، القطيع لا يفكر، لا يستشرف المستقبل، القطيع يعيش على التقليد والاجترار، القطيع يحمد الله على الكلأ والأعلاف، القطيع جاهز للتناطح لا التطارح، القطيع ممنوع من ممارسة التفكير وامتلاك أفكار يتطارحها.. ها نحن أمام التصور السبينوزي حين تُحوِّل السلطة الفاسدة الأفراد إلى حيوانات وآلات صماء، آلات تتحكّم فيها آليات السلطة التي أنتجتها، وتُحركها هائجة ضد المخالفين، مادامت السلطة هي التي تشرف على برمجتها، والبرمجة هنا هي الجهل المقدس، وردة الفعل تجاه من يخدشه قد تكون قاتلة. إن أكبر قيم الفلسفة هي احترام الحقيقة ونشرها، مهما كان الثمن، وهذا مغزى محنة الفلسفة، منذ إعدام سقراط، الذي أخرج الحقيقة من كهف أوهام الأفكار الجاهزة، والآراء الفاسدة، والقناعات الانتهازية الدوغمائية، إن واجب قول الحقيقة واجب مطلق، غير مشروط، ولا يعرف الاستثناءات بغضِّ النظر عن الظروف والملابسات، وهذا الفِعل يستلزم الشجاعة، والجرأة والنزاهة، لأن احترام الصدق واجب أخلاقي في ذاته، بل هو أوجب الواجبات الإنسانية وفق التعبير الكانطي، حتى وإن أضَرَّت الحقيقة بالذات أو بالغير.. من هذا المنطلق يجب فهم رفض كانط ادِّعاءات “بنيامين كونسطان” بأن قول الحقيقة ليس واجبا إلا نحو من لهم الحق أو يستحقون معرفة الحقيقة، لأنَّ هذا سيُفضي إلى شَرعنة الكذب، وتحوُّلِــه إلى قانون كوني للحياة، وتـــَهاوِي المصداقية، وانـــهيار أُسُس التفاهم بين الناس، وسيادة الظُّلم والظَّـلام، ومن تمَّ فقيمة الحقيقة تكمن في كونها فضيلة بالمعنى السُّقـراطي للكلمة، واحترام الحقيقة يتجلّى في التَّضحية من أجلها، وليس فقط مدحها وتقريظها، ومن هنا نفهم تضحية الفلاسفة بحياتهم من أجل إشاعة الحقيقة ومناهضة الوهم. إن مــحــنة الفلسفة انتصار لاحترام الحقيقة التي يصفها اسبينوزا بالنور الذي يطرد الظلام، وهذه أعظم مِــنـــحـــة تُقدمها الفلسفة للإنسانية جمعاء، هي ولوج الأنوار. جواب كانط عن السؤال: ما هي الأنـوار؟ “ما هي الأنـــــــــوار؟ إنها خروج الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسؤول عنه. قصور يعني عجزه عن استعمال عقله دون إشراف الغير، تجرأ على استعمال عقلك أنت، ذلك هو شعار الأنوار. إن الكسل والجبن هما السببان اللذان يفسران بقاء مثل هذا العدد الكبير من الناس مرتاحين إلى قصورهم مدى الحياة بعد الحياة، بعد أن حررتهم الطبيعة منذ زمن بعيد من التوجيه الخارجي، كما يفسران كم من السهل على البعض أن يُـنصِّبوا أنفسهم أوصياء على هؤلاء. إنه من السهل جدا أن يكون المرء قاصرا ! …. إلى أن يتساءل كانط: فإذا سُئلنا الآن إذن: “هل نعيش حاليا في عصر مستنيــــــــر؟ فإليكم
معركة الفلسفة ضدَّ الزُّومبي.. قراءة المزيد »