في ضرورة استعجال الفلسفة للأطفال!؟
تعتبر مرحلة الطفولة مرحلة الأسئلة الغزيرة بامتياز، إذ تتدفق أسئلة الأطفال بتلقائية وعفوية غير متوقعة أحياناً، ما قد يُسبّبُ الإحراج للكبار، ولا سيما حين يكون المجال مغلقاً محافظاً (أسرة – مدرسة – مجتمع – دولة).. فضاء يُشيطِـنُ الطفولة أو يحتقرها، ويرى في أسئلتها وقاحة مرفوضة، وغالباً ما تقابل الكثير من أسئلة الأطفال بالصد والمنع والقمع، وخصوصاً حين يعتقد الوالدان أنها علامة على الوقاحة والاستخفاف بقواعد الأدب والاحترام وقفز على الخطوط الحمراء الدينية السياسية الثقافية… من قبيل: – أين يوجد الله؟ – لماذا المشردون يعيشون وينامون في العراء، بينما الحكام والأغنياء يمتلكون الكثير من القصور؟ – ما السبب في تحول أجساد الكثير من الأطفال اليمنيين إلى هياكل عظمية؟ تلجأ بعض الأسر إلى أشدّ أنواع العقاب لوضع حدّ حاسم لما يرونه تطاولاً سافراً وفحشاً فاجراً من طفل صغير بذيء، وتُشهر أسلحة التعنيف تُجاه المتمرّد الصغير الذي شرع في شق عصا الطاعة، و”العصا لمن عصى”. وبُعَـيْد مدّة وجيزة من العقاب، يبتلع الطفل أسئلته المزعجة، فتتعزّز قناعة الكثيرين بأن العصا نزلت من الجنة لتأديب المنحرفين والآثمين. قبل أن نصدر حكماً على التربية القامعة للسؤال، ونتائجها الخطيرة والوخيمة، لا بد من تعريف السؤال وأهميته القصوى في حياة الإنسان. الحيوان لا يسأل ولا يتساءل. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك القدرة على السؤال، لأنّه الكائن الوحيد الذي يستطيع “ممارسة التفكير”، بمعنى أن الطفل حين يبدأ بممارسة لعبة السؤال، يجب على الأُسَر أن تفرح كثيراً، ولِمَ لا تقيم حفلة بسيطة لسؤاله الأول وتوثقه؟ لسبب وجيه يتجلى في كون السؤال أهمّ مظهر من مظاهر التفكير اليقظ.. الذي يسمى “التفكير التنويري”. التفكير عملية شاقة وصعبة، وهو يستلزم مجموعة من الشروط للنمو والتطور والتقدم. لذلك، يعتبر السؤال والتشجيع على التساؤل من أنجح الآليات المحفّزة للتفكير الذكي، إلى درجة أن الفيلسوف كارل ياسبرز اعتبر الأسئلة أهم من الأجوبة في الفلسفة. ما الذي يجعل السؤال أهم من الجواب؟ قبل الجواب عن هذا السؤال، لا بدّ من أن نتعرّف إلى خطّ آليات التفكير الذي يضمُّ العديد من العمليات الفكرية، التي قد تبدو في منطوقها بسيطة ومألوفة وبديهية وعادية، بيد أنها صعبة جدّاً وشديدة الغموض ومعقدة جداً، وهذا ما أكّدته الأبحاث والدراسات المرتبطة بعلوم التربية، ولا سيما المختصة بمجال التّعلّم، كعلم نفس النمو والسيكولوجيا المعرفية والعلوم العصبية، التي كشفت أن ممارسة التفكير تتطلب بناء شبكة من العمليات التي تُـسْــتـَـنْــبـَـتُ وتـزْدَهِر وتتقوّى أو تُــشــوّه وتُكسَرُ أو تُقتلع في مرحلة الطفولة. من هنا نفهم حساسية الطفولة. من بين العمليات الفكرية التي تتفتّــحُ مزهرة باكراً لدى الأطفال: الدهشة l’étonnement. الغريب أن دهشة الأطفال تتشابه كثيراً مع دهشة الفلاسفة، فإذا كان الكبار من عامة الناس لا يندهشون إلا إزاء ما هو غريب وغير مألوف، كرؤية سمكة برأسين أو توأم سيامي، فإن الأطفال يندهشون لما نعتبره حدثاً عادياً كموت شخص عزيز، على شاكلة هذه الأسئلة: – لماذا تضعون أخي في هذه الحفرة؟ – لقد مـــات! – ما معنى مات؟ – لقد سافر إلى السماء. – أخي لم يُسافر، لقد قتله جندي “إسرائيلي”؟ طبعاً، إن الكثير من الأجوبة التي سنقدمها لأطفالنا في هذه الحالة لن تقنعهم، وسيجابهونها بأسئلة تَحفُـر في الأعماق بغية بلوغ الحقيقة. من هذا المنطلق، تفهم عبارة أرسطو “الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف”. لكن ماذا لو قمعنا حق الأطفال في الدهشة والسؤال؟ من المفترض أن المنع المنتظم لحق الأطفال في ممارسة الدهشة بأسئلتها الجريئة، والتي تتأرجح إحراجاتها بين التابوهات الدينية، الجنسية، الاجتماعية، والسياسية.. قد يفضي إلى نتائج متفاوتة الضّرر على آليات تفكير الطفل، تترجم عبر مؤشرات مرَضِية دالّة، مثلاً: استبدال الدهشة اليقِظَة بالشرود الساذج، وكبت السؤال العفوى الجريء بمسكوكات لغوية ميكانيكية لتجنّب التوبيخ والعقاب، وانزلاق الطفل إلى الطاعة العمياء التي تقتل بداخله أهم خصائص التفكير الذكي وعملياته، ومن أبرزها: الــــشّـــــكّ le doute. – مَن خلق المخلوقات؟ – يتساءل الطفل بكل براءة وعفوية. يكتم الأب غضبه، وأيضاً رغبته في صفع طفله “الوقح”. وقد يجيب: يا ولدي، تسأل من خلق المخلوقات؟ أين يوجد الله؟ الله يا بني هو الذي خلق المحلوقات، الله يوجد في كل مكان، “وهو معكم أين ما كنتم”.. قد يقول الطفل ببراءة أكثر: لكني لم أره أبداً يا والدي. هنا، لا بد أن يمتلك الوالدان رحابة الصدر ورجاحة الفكر، لا التهديد بالنار والجحيم، لأن الطفل في حالة شك، وهي ليست حالة كفر وتمرّد، بل حالة تردّد بين الإثبات والنفي، هي حالة فقدان التوازن في رحلة تأسيس الحقائق حول الحياة والخالق والخلائق. من خلال أمثلة بسيطة تناسب سن الطفل وذكاءه، يستطيع الأب أن “يفوز” بمناظرة رائعة بينه وبين طفله. هذه النظرة الإيجابية لشك الطفل في الآراء السائدة والأفكار الشائعة والعادات الموروثة والأحكام المسبقة، هي التي ستكسب الطفل السعادة بتعبير الفيلسوف أبيقور Épicure، وليس فقط الطمأنينة. نعم، الفلسفة هي ما يجعل الناس سعداء، هكذا يصبح الحوار الذي أطلقه سؤال الطفل الصغير سفراً ممتعاً لكل أفراد الأسرة، حيث يُعرّف الوالد ولده بأهمية سؤاله الذي كان وما زال بؤرة اهتمام ليس فقط للأطفال، بل للكبار والكبار جداً، أي المفكرين والعلماء ورجال الدين والفلاسفة، ومنهم الفيلسوف ابن رشد الذي أجاب على السؤال الآنف بطريقة رائعة لأنه مفكر. – هل تدري ما معنى مفكّر يا ولدي العزيز؟ – نعم، هو مثلك، يستخدم عقله ويتساءل ويتأمل ويبحث ويفكر بجدية كبيرة، حتى إنه يشعر بصداع في رأسه من شدة التفكير.. – لماذا يا والدي؟ – كي يحيب عن مثل هذه التساؤلات التي تبدو بسيطة وسهلة، لكنها معقدة وعميقة. وقد توصّل هذا الفيلسوف الكبير ابن رشد إلى أن المخلوقات والموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتمّ كانت المعرفة بالصانع أتمّ. لذلك، الله تعالى هو خالق الخلائق، فإذا كان الإنسان قد استطاع صناعة الكثير من الصناعات، بما فيها “الإنسان الآلي”، فإن الله جل جلاله هو خالق الإنسان وكل الكائنات والأكوان، أنت تعلم يا بني أن الإنسان الآلي، مهما بلغ ذكاؤه، يستطيع المهندس الذي صنعه أن يعيد برمجته وتطويره أو تدميره، لكن خالقنا رحيم رحمن.. لاحظ معي تعاقب الليل والنهار بانتظام، زدقة تصميم الكواكب والنجوم، وهذا العقل أعظم وأخطر ميزة لدى البشر. – معذرة يا والدي، عبارتك الأخيرة متناقضة: العقل عظيم وخطر. كيف؟ – العقل عظيم. هذه واضحة. أتذكر حين كنت في السادسة من عمرك يا ولدي، وذهبنا إلى جدّتك في القرية. كنت تمتطي ظهر البغل وتقوده حيث شئت.. وهو أكبر منك حجماً بكثير.. لو كان يمتلك عقلاً، لما سمح لك بركوبه. بالعقل أقام الإنسان العمران من منازل، ومعابد، ومدارس، ومختلف المؤسسات، وصنع الملابس والأدوات والأجهزة والآلات من سيارات وسفن وطائرات وجرّارات ومصانع أدوية ومختبرات. كما تغلّب على الكثير من المشاكل، كالأمراض المعدية والمجاعات والحروب والصراعات. بالعقل، استطاع الإنسان توفير الأمن
في ضرورة استعجال الفلسفة للأطفال!؟ قراءة المزيد »