Falsafaliljamee

ثانية باكالوريا

المجزوءة الثانية: المـعـرفـة

  مدخل:        تعرفنا في المجزوءة الأولى “الوضع البشري” على الإنسان باعتباره “شخصا”، بمعنى ذاتا واعية مفكرة حرّة مريدة ومسؤولة، كما أنه ينوجد مع “الغير” ضمن تفاعلات معرفية وعلائقية  تستدعي حضور استراتيجيات التفكير والمعرفة.        إن ما يجعل الوضع البشري وضعا مُفكّرا فيه، هو أنه وضع كائن يمتلك نشاطا عقليا يُسمى “المعرفة” وهو ما يعرف في الفلسفة بمبحث الإبستمولوجيا، وهذا ما سنحاول اكتشافه عبر المجزوءة الثانية: المعــرفــة.       تعتبر المعرفة نشاطا إنسانيا وفعالية بشرية، ينتجها الإنسان، وهي تتطلّبُ وجود ذاتاً عارفةً وموضوعا للمعرفة،  وسنعمل عبر سيرورة هذا الدرس على مقاربتها انطلاقا من مفهومين مركزيين: المفهوم الأول: هو مفهوم مركب “النظرية والتجربة” بغية تسليط الضوء على نمط خاص من المعرفة، وهو “المعرفة العلمية”. والمفهوم الثاني: هو مفهوم“الحقيقة” التي تعتبر غاية كل بحث معرفي، حتى أن الفلسفة تعرف منذ نشأتها بكونها بحثا عن الحقيقة، غير أن هذه “الحقيقة” تطرح أمام الإنسان الكثير من الإشكالات سنعمل على فك بعض ألغازها عبر مسارات هذا النبش الفلسفي. المفهوم الأول: النظرية والتجربة تقديم:     حينما نفكر فلسفيا في “المعرفة العلمية” نتوجّه مباشرة إلى مفهوم النظرية والتجربة، إذ لا معارف علمية بدون نظريات تقودها وتوجهها، ولا حقائق في العلم بدون تجارب تؤكدها وتثبت صدقها.     يطرح المفهوم الزوجي النظرية والتجربة إشكالا منهجيا ونظريا يتعلق بشروط إمكان البناء النظري أو استحالته، مما يطرح بصورة كبيرة حدود المعرفة النظرية، خصوصا أمام علاقة الصراع بين نظرية تحيل ترتبط بالعقل، وتجربة تحيل إلى الواقع، وهو صراع يأخذ طابعا علميا يجعلنا نسائل الوضع والقيمة الإبستمولوجية لمفهوم “العلم”. النظرية La théorie :      تتعدد تعاريف “النظرية” ومن بينها حسب معجم روبير: “النظرية هي مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة، المنظمة قليلا أو كثيرا، والمطبقة على ميدان مخصوص”، وفي معنى ثان النظرية “بناء عقلي منظم ذو طابع فرضي تركيبي”، كما عرفها الفيلسوف الفرنسي لالاند في معجمع بأنها “هي إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ”.    هكذا فالنظرية في معناها الاصطلاحي التأملي هي نسق من المبادئ والقوانين والمفاهيم ينظم معرفتنا بمجالات خاصة من الواقع، ويتضمن هذا النسق بناءا منطقيا له مكوناته ويخضع لنظام فرضي استنباطي.  التجربة L’ expérience:       في معناها العام تدل التجربة على “مجموع المعارف والخبرات التي يكتسبها الإنسان في علاقته المباشرة من الواقع، وأيضا الحنكة والإتقان التي يكتسبهما الإنسان اعتمادا على خبرته الذاتية، وبالتالي فهي توجد في أساس كل معرفة إنسانية.    أما دلالتها الخاصة فتعني “مجموع العمليات التي يتم بمقتضاها إحداث ظاهرة ما في المختبر، بهدف دراستها والوصول إلى بناء معرفة حولها. والتجربة بهذا المعنى هي التي تمكن من معرفة القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية، وهي تقتصر على الممارسة العلمية الدقيقة كممارسة تتأسس فيها المعرفة على التجريب العلمي. هكذا يطرح مفهوم التجربة إشكالا عميقا يتعلق بمسألة التمييز بين التجربة بمعناها العام والتجربة بمعناها العلمي، وهو المعنى الذي يعبر عنه بالتجريب.     كما تفرزعلاقة النظرية بالتجربة عدة مفارقات وإحراجات نعبر عنها من خلال التنائيات التالية: الذات/الموضوع، التجربة العامية/التجربة العلمية، العقل/الحواس، الفكر/ الواقع، العقلانية/التجريبية، وغيرها من الإشكالات الإبيستملوجية داخل المعرفة العلمية الدقيقة، سنعمل على مقاربة بعضها عبر مسارات اشتغالنا الفلسفي. المحور الأول: التجربة والتجريب الإشكالية:      إذا كان العلم هو علما بواقع ما، يستلزم استحضار هذا الواقع كمنطلق لبناء المعرفة العلمية وتمحيص صدقها أو عدمه، فإن عملية الاستحضار هذه، تقودنا إلى إثارة مسالة التجربة والتجريب، مما يدفعنا إلى بسط هذه التساؤلات: – ما دلالة الإختلاف  والتمايز  بين االتجربة والتجريب؟ – وما هي خطوات المنهج التجريبي وكيف يقود التجريب إلى بناء النظرية العلمية؟  – ما دور كل من العقل والخيال في العلم؟ هل التجربة دائما مخبرية، أم يمكن الحديث عن تجربة ذهنية رياضية (الخيال العلمي)؟ موقف الإبِّستيمولوجي ألكسندر كويري Alexandre Koyré :       في كتابه “دراسات غاليلية” يؤكد ألكسندر كويري (A.Koyré) أن التجربة بمعناها الخام هي مجرد ملاحظة عامية لم يكن لها أي دور في نشأة العلم الكلاسيكي، بل شكلت عائقا أمام قيام النظريات العلمية، لكونها تنتمي إلى المعرفة ما قبل العلمية، لخلوها من الشروط النظرية والموضوعية، في حين أن التجريب هو المساءلة المنهجية للطبيعة، وهويعتمد فيها لغة رياضية وهندسية قادرة على قراءة كتاب الطبيعة وتحديد العلاقات الثابتة بين ظواهرها.     حسب كويري العلم الكلاسيكي تميز بإضفاء الصفة الهندسية على المكان، وتجاوز الانطلاق من الكوسموس أي ما تقدمه لنا الحواس مباشرة.    وبالتالي فإن التجريب العلمي إذن يتجاوز التجربة العادية ويقطع معها، لأنه يتأسس على مبادئ عقلية ومناهج علمية وأدوات تمكن من بناء المعطى الطبيعي وتسائله انطلاقا من الفكر من أجل بناء معرفة جديدة بصدده، وهي المعرفة التي لا يمكن للتجربة الحسية أن تدركها ما دامت تقف عند ما هو معطى وظاهري وتتقبله بشكل سلبي. موقف كلود برنار Claude.Bernard :     يؤكد العالم والطبيب الفرنسي كلود برنار في كتابه (مدخل لدراسة الطب التجريبي) أن “التجريب هو انفتاح على الواقع وإنصات للطبيعة بالاعتماد على خطوات منهجية ونطرية، ينبغي على العالم أن يكون مُلِمّا بها ، كشروط ومبادئ منهجية ونظرية لبلوغ الحقيقة العلمية، ويتحدد المنهج التجريبي حسب كلود برنار من خلال مجموعة من الخطوات، تبدأ بالملاحظة ثم تتلوها الفكرة العقلية (الفرضية) التي تسعى إلى تفسير الظاهرة، وبعد ذلك يتم التأكد من الفرضية المفسرة عن طريق التجربة العلمية التي تعتبر معيارا للتحقق من صحة الفرضية أو عدم صحتها، وأخيرا صياغة القانون العلمي الذي هو يمثل مجموع العلاقات الثابتة بين الظاهرة المدروسة والأسباب المنتجة لها.  انطلاقا من كل هذا يحدد كلود برنار خطوات المنهج التجريبي التي تجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية، حيث تأتي الملاحظة الموجهة بتصورات نظرية في بداية هذا المنهج، لكي تتبعها فكرة عقلية منبثقة عنها، هذه الفكرة التي يتم الاستدلال عليها انطلاقا من التجربة والوصول إلى قانون علمي. (مثال: تجربة بول الأرانب).      نستنتج مما سبق أن التجريب العلمي  هوإعمال حقيقي للفكر وللعقل من أجل استفزاز الطبيعة وإرغامها على البوح بأسرارها، في حين تظل التجربة العامية تقبلا سلبيا لما يحدث لنا ويؤثر فينا من وقائع خارجية، بمعنى أن التجربة العامية تجعل الإنسان في موقف المنفعل، في حين يجعله التجريب العلمي في موقف الفاعل، كما تقف التجربة عند حدود ما هو معطى وظاهري، في حين يستنطق التجريب الظواهر ويبني بصددها معرفة جديدة وعميقة لا يمكن الوصول إليها عن طريق التجربة العامية المباشرة. تصور عالم الرياضيات روني طوم:      إذا كان التجريب حسب التصور التقليدي هو معيار للتحقق من الفرضية، فإن روني طوم يرى في كتابه “Philosophie des sciences d’aujourd’hui”أنه لا يمكن الحديث عن فرضية علمية غير مؤسسة على نظرية سابقة، فكل نظرية تتضمن في نظره كيانات خيالية يتم التسليم بوجودها، مما يعني أن لعنصر الخيال العقلي دور كبير في التجريب العلمي.  يؤكد روني طوم أن التجريب وحده لا

المجزوءة الثانية: المـعـرفـة قراءة المزيد »

Scroll to Top