الفلسفة: طريق السعادة أم الشقاء؟

هل تمنحنا الفلسفة السعادة: لا شك أن السعادة هي  أسمى غاية يسعى إليها الإنسان في رحلة حياته القصيرة المتغيٍّرة، الموسومة بالكثير من التقلبات والطموحات والآمال والآلام، وتمثّلات السعادة تختلف من شخص لآخر، فالمريض يراها في زوال الألم ومعانقة الصحة، والفقير قد يعتقد أن السعادة ستلازمة حين يغادره الفقر، والمهمّش قد يظنُّ أن السعادة تبدأ في إقبار التهميش والظفر بأسباب المجد، والمحروم قد يتوهَّمُ أن سعادته في تخلِّصه من كل مظاهر الحرمان.. تمثلات السعادة  لا حدود لها، وهذا ما جعل فيلسوف الأنوار كانط يربطها بالخيال، وابتعادها عن العقل، وهذا ما يضعنا أمام مفارقة كبيرة ومعضلة عميقة، خصوصا ونحن نحاول إثبات أن الفلسفة قد تمنحنا السعادة، علما أن الفلسفة في جوهرها تقوم على العقل وممارسة التفكير، والشك في البداهات والعادات، والمساءلة النقدية.. وترفض الخرافات والخيالاات والأوهام.  ها نحن نقترب من الخيط الناظم للسعادة ، من خلال القدرة على إعمال العقل، والشك النقدي في كل ما يعتبره الناس مصدر حقيقيا  للسعادة، كالمال والقوة البدنية وامتلاك سيارة فاخرة والفوز بزوجة جميلة، او تحقيق النشوة السعيدة بتجريب  المخدرات المُدَمِّرة..  كما ترون أن أفكارنا حول السعادة هي نفسها السعادة، وحين لا نصل إلى تحقيق ما نعتبره مصدر السعادة نشعر بالشقاء والآلام، وتبدأ كرة الثلج تتدحرج.. وكلما تدحــــرجت أكثـر، إلاَّ وتعمَّقتْ آلامنا أكثر، ولو تاملنا في أفكارنا المرتبطة بالسعادة، سنجد أن مصدرها ليس أفكارنا التي أنتجتها عقولنا عبر ممارسة التفكير، وإنما أفكار المجتمع والبيئة التي نعيش فيها، وهذا معنى “الإنسان ابن بيئته”. هكذا ستساعدنا السيدة الفلسفة على مراجعة  وإعادة التفكير في الأفكار التي أخذناها من المجتمع، بمعتقداتها الرائجة، وعاداتها الشائعة وأفكارها الجاهزة، ونَبْدَاُ بمُساءلتها وإخضاعها للشك والنقد والحفر الفكري في جذورها وأسسها وخلفياتها وغاياتها.. السعادة تبدأ بمعرفة حقيقة ما يُسعدنا: السيدة الفلسفة طبيبة ماهرة ومتواضعة لكنَّها جريئة ولا تُحِبُّ المجاملات على حساب الحقيقة، لذلك  تطلب من كلِّ مرضاها أن يثقوا في عقولهم، وأن يعملوا على تقوية أسمى ما في الإنسان، طبعا إنه العقل. وأن يُصارِحوا أنفسهم بأنفسهم، وألاَّ يتهرَّبوا من مُكاشَفة حقيقتهم، وأن ينظر الشخص في مرآته الشفافة ويرى حقيقته بعين العقل. ما أكثر البداهات المألوفة حول السعادة، أبسطها أن الأغنياء سعداء جدّا، وأن كل من يعتقد أن المال لا يُحقق السعادة إما مجنون أو فقير حقير، وهذا تُسمِه الطبيبة فلسفة بالحكم المُسبق. لذلك تطلب منا التخلي عن الأحكام المُسبقة، بالمناسبة مؤخّرا التقيت بشاب موظف ثري، طلّق زوجته بطفلين صغيرين بريئن، بعدما منح حياته لعشيقته الجديدة، معشوقته التي يهيم بها هي المخدّرات، كان هذا الشاب (خالد) مُحْبطا جدّاً، يقف على حافّة الانتحار، بعد زيارات كثيرة لمراكز علاج الإدمان على المخدّرات، وزيارة بعض الأطباء النفسيين، وقد عاد بخفّي حنين، لا يلوي على شيء.        جلسنا صباحا في مقهى  جميل، كان هذا الصديق القديم يشكو من صداع رهيب في رأسه، وهو لا يكفُّ عن إعادة سؤال يؤرِّقه بلا انقطاع، بخصوص مصير الشخص المنتحر يوم الحساب الأخير. لقد كان صاحبنا ينتظر فقط الضوء الأخضر للرحيل، مع مجموعة من الأعراض السّامّة المليئة بالنقد الأسود، لا شيء يرُوقه، القهوة رديئة وعُمّال المقهى في نظره انتهازيون كزوجته، والعالم غابة من الذئاب المفترسة، وزملاء العمل أشرار يتآمرون عليه، أما الأقارب فهم مجرد عقارب، وهو الملاك البرئ داخل هذه العصابة الكبيرة. طبعا كانت معظم هذه الأحكام الجاهزة خاطئة، تعكس مدى السوداوية التي أصبح يتخبَّطُ فيها بسبب سيطرة الإدمان على حياته، وانْسِداد النَّفق المُظلم، وعدم القدرة على مُكاشفة ذاته بأنَّ إرادته تضرَّرت كثيرا، ليس بسبب المخدٍّرات فقط، وإنما لكثرة النتائج الكارثية للإدمان: الطلاق، فقدان الدفء الأسري، الخسائر المتتابعة في العمل، العزلة الرَّهيبة، حيث أصبح شخصا لا يُطاق، والحديث معه يتطلب مهارات عالية وصبراجميلا، مع توقُّع شكواه المتكرِّرة وعتابه وغضبه، وهو ما جعله يحصد  جائزة العقاب الاحتماعي، وهنا بدأ  سياط ضميره يعمل بلا توقُّف، ويجلده ويؤنِّبُه كلَّ لحظة، ، والحل المُتبقي في عقله المُنْهك هو الرحيل الانتحاري.. الفلسفة والرّحيل إلى السعادة:  أخرج هذا الانتحاري المُفترض علبة السجائر، وطلب مني الإذن ليُدخّن بقربي، لم أسمح له، وبدهشة صرخ: أنت تعلم أنِّي سأرحل قريبا، ولم تسمح لي يالتدخين، مضيفا حتى في أعتى السجون يسمحون للمحكومين بالإعدام بهذه التّرهات. وهنا تدخّلت بهدوء، يا صديقي العزيز إن ما تعتبره ترّهة وتفاهة هو سبب وصولك إلى حبل الانتحار، ألا ترى أنك كنت تعيش مع زوجة صالحة باعترافك، منحتك كلَّ شيء جميل، وقدّمت لك أميرين صغيرين رائعين. لكنك عوض أن تُكرّس حياتك لخدمة أسرتك وإسعادها.. كرّست حياتك للتفاهة. وها أنت تصرخ بصبيانية في انتقاد التفاهة. وهذه بداية جيدة.. الكثير من الناس يهبون حياتهم وحياة أسرهم لأجل التفاهة، وهم يقدّمون تضحيات كبرى لإشباع رغباتهم التافهة، كما فعلت أنت حيث أصبحت حياتك كلها مُعتقلة من طرف صنم المخدِّرات، عليك أن تصرخ في وجه السُّلطان المخدِّر، الذي يُسيطر على حياتك، لا أن تصرخ في وجهي أنا أو أسرتك وأصدقائك. وأُخْبِركَ نيابة عن الطبيبة فلسفة، عليك أن تصرخ في وجه فكرتك الوهمية عن السعادة، وبعدها أُصرخ في وجه المخدرات “صراخا عقيا”، نعم الصراخ العقلي هو مرحلة لاحقة بعد استخدام مطرقة العقل والشروع في هدم صنم المخدٍِّر، الذي أخذ منك وظيفتك وزوجتك وطفليك، وها هو الآن يقدِّم لك النصيحة الأخيرة، الانتحار، ليأخذ منك “حياتك”. لقد درسنا معا وكنت تمتلك إرادة صلبة، واستطعت التغلب على الفقر، وحصلت على عمل محترم، وزجة محترمة، وأميرين رائعين، وتسكن في حي محترم، هذه السلسلة الطويلة من الاحترام والتقدير الذاتي والاجتماعي، إنما انتزعتها بعقلك السابق . العقل السليم الذي لم يعد سليما ولا سويا.. سعادتنا  وشقاؤنا مرتبطين  بالطريقة التي نُفكِّر بها، لأن الفكرة الخاطئة عن السعادة ستقود إلى فعل خاطئ ونتيجة خاطئة، والاعتقاد بأن المخدِّرات ستَحلُّ مشكلة أو تمنح سعادةً هي فكرة خاطئة، والدّليل ها أنت يا صديقي أضفت مشلكة كارثية إلى مشاكل الحياة العادية، الإدمان  أشبه بزلزال  تصدُّعاته لا تنحصر في الشخص المدمن كما أنّ بؤرة الزلزال،  تمتدُّ  لأشخاص أبرياء.. لأسرة والأقارب وصولا إلى العمل، نعم  المخدِّر  أشبه بأخطبوط له المئات من الأذرع الشريرة.. تُحرّكها  “سلطة العادة القاتلة”. حينها شرع خالد في البكاء، وأخبرني أن هذا العصف الذهني، جعله يتخلَّص من الكثير من الأفكار الضبابية، ويرى بوضوح فداحة الوضع الذي أوصله إليه إدمان المخدِّرات.. والإدمان هو في الحقيقة مظهر من مظاهر “العادات”. نعم سلطة العادة السِّلبية، حين تتغلَّف بالنشوة واللذّة والمُتْعة والرغبة الخدّاعة.. تذبحنا بطريقة ناعمة وتلقي بنا في بئر الآلام والشقاء.. ونكون كالديك المذبوح نرقص رقصة الوداع المفجع.. اليوم بدأت حياة صديقي خالد تترمَّمُ.. يعيش مع ولأجل “أسرته الصغيرة” مملكة السعادة بتعبيره، والأهم أنه بدأ حياة هادفة.. وقد أخبرني أنه لأول مرّة يقرأ القرآن الكريم ويتدبَّرُ آياته العظيمة، وأصبح من عُشاق الفلسفة الرّواقية، وقد انتقل إلى إدمان جديد على

الفلسفة: طريق السعادة أم الشقاء؟ قراءة المزيد »