منار الفلسفة: الأولى آداب.
منار الفلسفة: الأولى آداب. قراءة المزيد »
نص الفيلسوف جول لاشوليي: من الأكيد أنّنا ننظر لأنفسنا على أنّنا شخص واحد، وأنّنا نفس الشخص في كلّ فترات عمرنا، لكن هذه الهويّة التي ننسبها لأنفسنا، هل تفترض بالضرورة أن فينا عنصرا ثابتا، أنا حقيقيّا وثابتا؟ لنسجّل أنّ الوقائع تُكذّب كلّيا هذه الفرضية، فالإنسان الذي هو في حالة نوم ليس له إلاّ أنا متخيّل يتبخّر عندما يستيقظ، كما أنّ ضربة واحدة على الرأس تكفي لحفر هوّة عميقة بين أنا اليوم وأنا البارحة لأنّها تشلّ ذكرياتنا، ونحن نعرف كذلك حالة بعض المرضى الذين لديهم أنا أوّل وأنا آخر يتناوبان فيما بينهما وأحدهما يعرف الآخر … أن نقول بأنّنا نرجع حالاتنا الداخلية إلى “أنانا“ معناه أن نقول إنّنا نرجع حالاتنا الداخلية الخاصّة إلى أنا ما أو إلى ذات حاملة عامة …، وليس هناك سوى شيئين يمكن أن يجعلاننا نحسّ بهويّتنا أمام أنفسنا وهما: دوام نفس المزاج أو نفس الطبع، وترابط ذكرياتنا، ذلك أنّ لدينا نفس الطريقة الخاصّة في ردّ فعلنا تجاه ما يؤثّر علينا، أي أنّ نفس العلامة تسم ردّ فعلنا الأخلاقي وتطبع حالاتنا النفسية الداخلية بطابع شخصيّ … إضافة إلى ذلك فإنّ ذكرياتنا تشكّل على الأقلّ بالنسبة للقسم القريب من حياتنا سلسلة مترابطة الأطراف: فنحن نرى أنّ حالتنا النفسية الحالية تتولّد من حالتنا النفسية السابقة… هكذا يمتدّ وعينا التذكّري في الماضي ويتملّكه ويربطه بالحاضر، ليست هويّتنا الشخصية إذن كما كان متداولا من قبل، معطى أوّليا أصليّا في شعورنا، بل إنّها ليست إلاّ صدى مباشرا أو غير مباشر، متواصلا أو متقطّعا لإدراكاتنا الماضية في إدراكاتنا الحاضرة، إذن نحن لسنا أمام أعيننا سوى ظواهر يتذكّر بعضها بعضا. أحلل النص وأناقشه. 1- مطلب الفهم: “اعرف نفسك بنفسك“ نداء قديم أطلقه الفيلسوف اليوناني سقراط يدعو فيه كل انسان أن يعرف نفسه بنفسه، غير أن رحلة معرفة الإنسان لنفسه كانت ولا زالت محفوفة بالعديد من المآزق والمعضلات الفكرية ، وهذا ما سيتجلى لنا واضحا من خلال تحليل النص موضوع الدراسة، الذي يتموقع ضمن المجال الإشكالي الانطولوجي للوضع البشري المرتبط بمفهوم الشخص، وتحديدا مسألة هوية الشخص، التي تتسم بالزئبقية والتعقيد، وتضعنا أمام إشكال يفجر المألوف المتداول بصدد ماهية الشخص، بدءا من الافرازات الإيتيمولوجية إلى أقصى التخوم الإبستيمية، فإذا كانت الهوية تشير إلى مجموع الخصائص الجوهرية الثابتة، فإن هذا يستلزم ثبات الشخص وتطابقه مع ذاته في كل مراحل حياته، غير أن الإنسان هو سيرورة من التغير المستمر، لدرجة تجعلنا نقول إن الثابت في الشخص هو المتغير، بيْدَ أنَّ طِباعَنا ثابتة، وقد يقول قائل هي ليست طباع بل سلطة العادة، لكن ماذا عن البرمجة والتعديل والتلاعب الهوياتي وغيرها من الاختراقات التي تستطيع استبدال الهويات إلى مسح الذاكرة الشخصية والجمعية، هذه المفارقات وغيرها تجرُّنا الى طرح الإشكالية التالية: – أين تكمن هوية الشخص؟ – هل في المظهر الخارجي كالجسد واللباس والاقنعة،أم في البعد الباطني كالفكر والذاكرة؟ – هل الهوية تقوم على الوحدة والتطابق، أم التعدد والتنوع؟ – ألا يمكن اعتبار هوية الشخص واقعة تركيبية أم أنها مجرد وهم؟ تجدر الإشارة أن النص يعمق الإشكالية بتساؤلات ضمنية من قبيل: – ما الشخص؟ -ما الهوية؟ -ما الطبع والمزاج؟ – ما الذاكرة؟ –هل يمكن اعتبار وحدة الطبع والذاكرة بعدين أساسيين لإدراك هوية الشخص؟ 2-مطلب التحليل: في معرض جوابه على هذه الاشكالية تقدم النص بأطروحة رافضة للتصور الماهوي لهوية الشخص، وهو رأي يفترض امتلاك الشخص لهوية ثابتة معطاة للإنسان بشكل فطري، في المقابل يؤكد الفيلسوف لاشوليي أن الأنا تتسم بالدينامية ، وما يمنحها الوحدة ضمن سيرورة التغير هما: وحدة الطبع والمزاج أو السمة العامة للشخص، ثم الذاكرة التي تربط بين أزمنة الذات، بمعنى أن الطبع الذي يلازم الشخص مع آلية التذكر هما أساس وحدتنا النفسية رغم مختلف التغيرات التي تصاحب حياتنا. ولتوضيح وجهة نظره وظف بنية مفاهيمية شكلت الاطار النظري لموقفه حيث حدد مفهوم الهوية بالخصائص التي تجعل الشخص هو نفسه في وحدة مع ذاته، والأنا/ الشخص هي الذات الحاملة العامة المتميزة بأبعاد داخلية تحدد ما هو وتجعله هو نفسه مطابق لذاته، ومفهوم الطبع والمزاج والذي يعني الطريقة الخاصة في رد فعلنا تجاه ما يؤثر فينا أي العلامة التي تسم رد فعلنا الأخلاقي وتطبع حالاتنا النفسية الداخلية بطابع شخصي. ومفهوم الذاكرة باعتبارها سلسلة مترابطة الأطراف تربط الحاضر بالماضي واللاحق بالسابق. ويمكن أن نلاحظ أن صاحب النص يصدر عن مرجعية نفسية سيكولوجية يتخد فيها مفهوما الطبع والذاكرة دلالة قوية، بحيث يتلازمان ليحددا البعد الهوياتي للشخص. لكن كيف دافع الفيلسوف عن وجهة نظره؟ لإقناعنا بدعواه وظف صاحب النص استراتيجية حجاجية استهلها بفرضية ثبات الهوية وسكونها وتطابقها في كل فترات عمرنا، مع تشكيكه في صحة هذا الافتراض من خلال سؤاله عن مدى مصداقية هذا الطرح الأكثر تداولا، ليصل بنا إلى وقائع تجريبية تدحض وتفنذ مضمونه بأمثلة تمنح سندا واقعيا امبيريقيا للتجريد الفلسفي قدمها كما يلي: تحول الإنسان من حال إلى اخر، بين النوم واليقظة، فالشخص ليس هو هو إذ سرعان ما يصبح الشخص حين يقظته ذاتا مغايرة تتسم بالوعي والانتباه والارادة، خلافا لهوية ذاته حين نومه. كما أن تعرض الانسان إلى ضرب شديد أو اصطدامات قوية، قد يكون سببا في التحول من حال إلى آخر، فلا يحافظ على الأنا التي كان يمتلكها قبل تعرضه للضرب على راسه، ليصل الى واقعة الحالات المرضية التي تسبب تغييرا في احوال ذات الإنسان، وخصوصا الامراض المتعلقة بالحياة النفسية وبمزاج الشخص، فلا يكون هو هو في كل لحظة. ودائما باعتماد ضمير الجمع واقحام المتلقي في عرضه الاستدلالي وفق اسلوب الاستشهاد بالاجماع ينتقل بنا جول لاشولييه لعرض ما يجعلنا نحس بهويتنا أمام أنفسنا وهما محددين اثنين: دوام نفس الطبع أو نفس المزاج وترابط ذكرياتنا وتفسيره لهذين الشيئين حيث نصص على اهمية الذاكرة كبعد يشكل سلسلة مترابطة الاطراف لكونها تربط بين ازمنة الذات لقوله ” هكذا يمتد وعينا التذكري في الماضي ويتملكه ويربطه بالحاضر …” ليختتم مرافعته باستنتاج منطقي يعرض من خلاله موقفه بديلا للقول بثبات هوية الشخص، ودحضه للتصور الماهوي المتداول من قبل والذي يعتبر هوية الشخص معطاة من الأصل، بل هي طبع يتكون، وهي سيرورة ذاكرة، أي طبع متحول وذاكرة متغيرة، “ إذن نحن لسنا أمام أعيننا سوى ظواهر يتذكّر بعضها بعضا”، فضلا عن الروابط اللغوية والمنطقية التي منحت النص تماسكا ومعنى. 3-مطلب المناقشة: تكتسي أطروحة النص قيمة فلسفية، سيكولوجية، وتربوية، وهو ما يكشف دور الفلسفة في رفض الأفكار الجاهزة، وهذا يتضح من خلال نفي الفيلسوف لإمكانية العثور على هوية فطرية قبلية ممتدة في الزمان والمكان دون تغير، معترفا أن حقيقة الشخص متغيرة لكن ما يجعل الشخص في تطابق مع ذاته طبعه وذاكرته، كاشفا تهافت التصور الفلسفي الماهوي من خلال رفضه أن
الإنشاء -صيغة النص: هوية الشخص. قراءة المزيد »
مدخل: تعرفنا في المجزوءة الأولى “الوضع البشري” على الإنسان باعتباره “شخصا”، بمعنى ذاتا واعية مفكرة حرّة مريدة ومسؤولة، كما أنه ينوجد مع “الغير” ضمن تفاعلات معرفية وعلائقية تستدعي حضور استراتيجيات التفكير والمعرفة. إن ما يجعل الوضع البشري وضعا مُفكّرا فيه، هو أنه وضع كائن يمتلك نشاطا عقليا يُسمى “المعرفة” وهو ما يعرف في الفلسفة بمبحث الإبستمولوجيا، وهذا ما سنحاول اكتشافه عبر المجزوءة الثانية: المعــرفــة. تعتبر المعرفة نشاطا إنسانيا وفعالية بشرية، ينتجها الإنسان، وهي تتطلّبُ وجود ذاتاً عارفةً وموضوعا للمعرفة، وسنعمل عبر سيرورة هذا الدرس على مقاربتها انطلاقا من مفهومين مركزيين: المفهوم الأول: هو مفهوم مركب “النظرية والتجربة” بغية تسليط الضوء على نمط خاص من المعرفة، وهو “المعرفة العلمية”. والمفهوم الثاني: هو مفهوم“الحقيقة” التي تعتبر غاية كل بحث معرفي، حتى أن الفلسفة تعرف منذ نشأتها بكونها بحثا عن الحقيقة، غير أن هذه “الحقيقة” تطرح أمام الإنسان الكثير من الإشكالات سنعمل على فك بعض ألغازها عبر مسارات هذا النبش الفلسفي. المفهوم الأول: النظرية والتجربة تقديم: حينما نفكر فلسفيا في “المعرفة العلمية” نتوجّه مباشرة إلى مفهوم النظرية والتجربة، إذ لا معارف علمية بدون نظريات تقودها وتوجهها، ولا حقائق في العلم بدون تجارب تؤكدها وتثبت صدقها. يطرح المفهوم الزوجي النظرية والتجربة إشكالا منهجيا ونظريا يتعلق بشروط إمكان البناء النظري أو استحالته، مما يطرح بصورة كبيرة حدود المعرفة النظرية، خصوصا أمام علاقة الصراع بين نظرية تحيل ترتبط بالعقل، وتجربة تحيل إلى الواقع، وهو صراع يأخذ طابعا علميا يجعلنا نسائل الوضع والقيمة الإبستمولوجية لمفهوم “العلم”. النظرية La théorie : تتعدد تعاريف “النظرية” ومن بينها حسب معجم روبير: “النظرية هي مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة، المنظمة قليلا أو كثيرا، والمطبقة على ميدان مخصوص”، وفي معنى ثان النظرية “بناء عقلي منظم ذو طابع فرضي تركيبي”، كما عرفها الفيلسوف الفرنسي لالاند في معجمع بأنها “هي إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ”. هكذا فالنظرية في معناها الاصطلاحي التأملي هي نسق من المبادئ والقوانين والمفاهيم ينظم معرفتنا بمجالات خاصة من الواقع، ويتضمن هذا النسق بناءا منطقيا له مكوناته ويخضع لنظام فرضي استنباطي. التجربة L’ expérience: في معناها العام تدل التجربة على “مجموع المعارف والخبرات التي يكتسبها الإنسان في علاقته المباشرة من الواقع، وأيضا الحنكة والإتقان التي يكتسبهما الإنسان اعتمادا على خبرته الذاتية، وبالتالي فهي توجد في أساس كل معرفة إنسانية. أما دلالتها الخاصة فتعني “مجموع العمليات التي يتم بمقتضاها إحداث ظاهرة ما في المختبر، بهدف دراستها والوصول إلى بناء معرفة حولها. والتجربة بهذا المعنى هي التي تمكن من معرفة القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية، وهي تقتصر على الممارسة العلمية الدقيقة كممارسة تتأسس فيها المعرفة على التجريب العلمي. هكذا يطرح مفهوم التجربة إشكالا عميقا يتعلق بمسألة التمييز بين التجربة بمعناها العام والتجربة بمعناها العلمي، وهو المعنى الذي يعبر عنه بالتجريب. كما تفرزعلاقة النظرية بالتجربة عدة مفارقات وإحراجات نعبر عنها من خلال التنائيات التالية: الذات/الموضوع، التجربة العامية/التجربة العلمية، العقل/الحواس، الفكر/ الواقع، العقلانية/التجريبية، وغيرها من الإشكالات الإبيستملوجية داخل المعرفة العلمية الدقيقة، سنعمل على مقاربة بعضها عبر مسارات اشتغالنا الفلسفي. المحور الأول: التجربة والتجريب الإشكالية: إذا كان العلم هو علما بواقع ما، يستلزم استحضار هذا الواقع كمنطلق لبناء المعرفة العلمية وتمحيص صدقها أو عدمه، فإن عملية الاستحضار هذه، تقودنا إلى إثارة مسالة التجربة والتجريب، مما يدفعنا إلى بسط هذه التساؤلات: – ما دلالة الإختلاف والتمايز بين االتجربة والتجريب؟ – وما هي خطوات المنهج التجريبي وكيف يقود التجريب إلى بناء النظرية العلمية؟ – ما دور كل من العقل والخيال في العلم؟ هل التجربة دائما مخبرية، أم يمكن الحديث عن تجربة ذهنية رياضية (الخيال العلمي)؟ موقف الإبِّستيمولوجي ألكسندر كويري Alexandre Koyré : في كتابه “دراسات غاليلية” يؤكد ألكسندر كويري (A.Koyré) أن التجربة بمعناها الخام هي مجرد ملاحظة عامية لم يكن لها أي دور في نشأة العلم الكلاسيكي، بل شكلت عائقا أمام قيام النظريات العلمية، لكونها تنتمي إلى المعرفة ما قبل العلمية، لخلوها من الشروط النظرية والموضوعية، في حين أن التجريب هو المساءلة المنهجية للطبيعة، وهويعتمد فيها لغة رياضية وهندسية قادرة على قراءة كتاب الطبيعة وتحديد العلاقات الثابتة بين ظواهرها. حسب كويري العلم الكلاسيكي تميز بإضفاء الصفة الهندسية على المكان، وتجاوز الانطلاق من الكوسموس أي ما تقدمه لنا الحواس مباشرة. وبالتالي فإن التجريب العلمي إذن يتجاوز التجربة العادية ويقطع معها، لأنه يتأسس على مبادئ عقلية ومناهج علمية وأدوات تمكن من بناء المعطى الطبيعي وتسائله انطلاقا من الفكر من أجل بناء معرفة جديدة بصدده، وهي المعرفة التي لا يمكن للتجربة الحسية أن تدركها ما دامت تقف عند ما هو معطى وظاهري وتتقبله بشكل سلبي. موقف كلود برنار Claude.Bernard : يؤكد العالم والطبيب الفرنسي كلود برنار في كتابه (مدخل لدراسة الطب التجريبي) أن “التجريب هو انفتاح على الواقع وإنصات للطبيعة بالاعتماد على خطوات منهجية ونطرية، ينبغي على العالم أن يكون مُلِمّا بها ، كشروط ومبادئ منهجية ونظرية لبلوغ الحقيقة العلمية، ويتحدد المنهج التجريبي حسب كلود برنار من خلال مجموعة من الخطوات، تبدأ بالملاحظة ثم تتلوها الفكرة العقلية (الفرضية) التي تسعى إلى تفسير الظاهرة، وبعد ذلك يتم التأكد من الفرضية المفسرة عن طريق التجربة العلمية التي تعتبر معيارا للتحقق من صحة الفرضية أو عدم صحتها، وأخيرا صياغة القانون العلمي الذي هو يمثل مجموع العلاقات الثابتة بين الظاهرة المدروسة والأسباب المنتجة لها. انطلاقا من كل هذا يحدد كلود برنار خطوات المنهج التجريبي التي تجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية، حيث تأتي الملاحظة الموجهة بتصورات نظرية في بداية هذا المنهج، لكي تتبعها فكرة عقلية منبثقة عنها، هذه الفكرة التي يتم الاستدلال عليها انطلاقا من التجربة والوصول إلى قانون علمي. (مثال: تجربة بول الأرانب). نستنتج مما سبق أن التجريب العلمي هوإعمال حقيقي للفكر وللعقل من أجل استفزاز الطبيعة وإرغامها على البوح بأسرارها، في حين تظل التجربة العامية تقبلا سلبيا لما يحدث لنا ويؤثر فينا من وقائع خارجية، بمعنى أن التجربة العامية تجعل الإنسان في موقف المنفعل، في حين يجعله التجريب العلمي في موقف الفاعل، كما تقف التجربة عند حدود ما هو معطى وظاهري، في حين يستنطق التجريب الظواهر ويبني بصددها معرفة جديدة وعميقة لا يمكن الوصول إليها عن طريق التجربة العامية المباشرة. تصور عالم الرياضيات روني طوم: إذا كان التجريب حسب التصور التقليدي هو معيار للتحقق من الفرضية، فإن روني طوم يرى في كتابه “Philosophie des sciences d’aujourd’hui”أنه لا يمكن الحديث عن فرضية علمية غير مؤسسة على نظرية سابقة، فكل نظرية تتضمن في نظره كيانات خيالية يتم التسليم بوجودها، مما يعني أن لعنصر الخيال العقلي دور كبير في التجريب العلمي. يؤكد روني طوم أن التجريب وحده لا
المجزوءة الثانية: المـعـرفـة قراءة المزيد »
تعتبر مرحلة الطفولة مرحلة الأسئلة الغزيرة بامتياز، إذ تتدفق أسئلة الأطفال بتلقائية وعفوية غير متوقعة أحياناً، ما قد يُسبّبُ الإحراج للكبار، ولا سيما حين يكون المجال مغلقاً محافظاً (أسرة – مدرسة – مجتمع – دولة).. فضاء يُشيطِـنُ الطفولة أو يحتقرها، ويرى في أسئلتها وقاحة مرفوضة، وغالباً ما تقابل الكثير من أسئلة الأطفال بالصد والمنع والقمع، وخصوصاً حين يعتقد الوالدان أنها علامة على الوقاحة والاستخفاف بقواعد الأدب والاحترام وقفز على الخطوط الحمراء الدينية السياسية الثقافية… من قبيل: – أين يوجد الله؟ – لماذا المشردون يعيشون وينامون في العراء، بينما الحكام والأغنياء يمتلكون الكثير من القصور؟ – ما السبب في تحول أجساد الكثير من الأطفال اليمنيين إلى هياكل عظمية؟ تلجأ بعض الأسر إلى أشدّ أنواع العقاب لوضع حدّ حاسم لما يرونه تطاولاً سافراً وفحشاً فاجراً من طفل صغير بذيء، وتُشهر أسلحة التعنيف تُجاه المتمرّد الصغير الذي شرع في شق عصا الطاعة، و”العصا لمن عصى”. وبُعَـيْد مدّة وجيزة من العقاب، يبتلع الطفل أسئلته المزعجة، فتتعزّز قناعة الكثيرين بأن العصا نزلت من الجنة لتأديب المنحرفين والآثمين. قبل أن نصدر حكماً على التربية القامعة للسؤال، ونتائجها الخطيرة والوخيمة، لا بد من تعريف السؤال وأهميته القصوى في حياة الإنسان. الحيوان لا يسأل ولا يتساءل. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك القدرة على السؤال، لأنّه الكائن الوحيد الذي يستطيع “ممارسة التفكير”، بمعنى أن الطفل حين يبدأ بممارسة لعبة السؤال، يجب على الأُسَر أن تفرح كثيراً، ولِمَ لا تقيم حفلة بسيطة لسؤاله الأول وتوثقه؟ لسبب وجيه يتجلى في كون السؤال أهمّ مظهر من مظاهر التفكير اليقظ.. الذي يسمى “التفكير التنويري”. التفكير عملية شاقة وصعبة، وهو يستلزم مجموعة من الشروط للنمو والتطور والتقدم. لذلك، يعتبر السؤال والتشجيع على التساؤل من أنجح الآليات المحفّزة للتفكير الذكي، إلى درجة أن الفيلسوف كارل ياسبرز اعتبر الأسئلة أهم من الأجوبة في الفلسفة. ما الذي يجعل السؤال أهم من الجواب؟ قبل الجواب عن هذا السؤال، لا بدّ من أن نتعرّف إلى خطّ آليات التفكير الذي يضمُّ العديد من العمليات الفكرية، التي قد تبدو في منطوقها بسيطة ومألوفة وبديهية وعادية، بيد أنها صعبة جدّاً وشديدة الغموض ومعقدة جداً، وهذا ما أكّدته الأبحاث والدراسات المرتبطة بعلوم التربية، ولا سيما المختصة بمجال التّعلّم، كعلم نفس النمو والسيكولوجيا المعرفية والعلوم العصبية، التي كشفت أن ممارسة التفكير تتطلب بناء شبكة من العمليات التي تُـسْــتـَـنْــبـَـتُ وتـزْدَهِر وتتقوّى أو تُــشــوّه وتُكسَرُ أو تُقتلع في مرحلة الطفولة. من هنا نفهم حساسية الطفولة. من بين العمليات الفكرية التي تتفتّــحُ مزهرة باكراً لدى الأطفال: الدهشة l’étonnement. الغريب أن دهشة الأطفال تتشابه كثيراً مع دهشة الفلاسفة، فإذا كان الكبار من عامة الناس لا يندهشون إلا إزاء ما هو غريب وغير مألوف، كرؤية سمكة برأسين أو توأم سيامي، فإن الأطفال يندهشون لما نعتبره حدثاً عادياً كموت شخص عزيز، على شاكلة هذه الأسئلة: – لماذا تضعون أخي في هذه الحفرة؟ – لقد مـــات! – ما معنى مات؟ – لقد سافر إلى السماء. – أخي لم يُسافر، لقد قتله جندي “إسرائيلي”؟ طبعاً، إن الكثير من الأجوبة التي سنقدمها لأطفالنا في هذه الحالة لن تقنعهم، وسيجابهونها بأسئلة تَحفُـر في الأعماق بغية بلوغ الحقيقة. من هذا المنطلق، تفهم عبارة أرسطو “الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف”. لكن ماذا لو قمعنا حق الأطفال في الدهشة والسؤال؟ من المفترض أن المنع المنتظم لحق الأطفال في ممارسة الدهشة بأسئلتها الجريئة، والتي تتأرجح إحراجاتها بين التابوهات الدينية، الجنسية، الاجتماعية، والسياسية.. قد يفضي إلى نتائج متفاوتة الضّرر على آليات تفكير الطفل، تترجم عبر مؤشرات مرَضِية دالّة، مثلاً: استبدال الدهشة اليقِظَة بالشرود الساذج، وكبت السؤال العفوى الجريء بمسكوكات لغوية ميكانيكية لتجنّب التوبيخ والعقاب، وانزلاق الطفل إلى الطاعة العمياء التي تقتل بداخله أهم خصائص التفكير الذكي وعملياته، ومن أبرزها: الــــشّـــــكّ le doute. – مَن خلق المخلوقات؟ – يتساءل الطفل بكل براءة وعفوية. يكتم الأب غضبه، وأيضاً رغبته في صفع طفله “الوقح”. وقد يجيب: يا ولدي، تسأل من خلق المخلوقات؟ أين يوجد الله؟ الله يا بني هو الذي خلق المحلوقات، الله يوجد في كل مكان، “وهو معكم أين ما كنتم”.. قد يقول الطفل ببراءة أكثر: لكني لم أره أبداً يا والدي. هنا، لا بد أن يمتلك الوالدان رحابة الصدر ورجاحة الفكر، لا التهديد بالنار والجحيم، لأن الطفل في حالة شك، وهي ليست حالة كفر وتمرّد، بل حالة تردّد بين الإثبات والنفي، هي حالة فقدان التوازن في رحلة تأسيس الحقائق حول الحياة والخالق والخلائق. من خلال أمثلة بسيطة تناسب سن الطفل وذكاءه، يستطيع الأب أن “يفوز” بمناظرة رائعة بينه وبين طفله. هذه النظرة الإيجابية لشك الطفل في الآراء السائدة والأفكار الشائعة والعادات الموروثة والأحكام المسبقة، هي التي ستكسب الطفل السعادة بتعبير الفيلسوف أبيقور Épicure، وليس فقط الطمأنينة. نعم، الفلسفة هي ما يجعل الناس سعداء، هكذا يصبح الحوار الذي أطلقه سؤال الطفل الصغير سفراً ممتعاً لكل أفراد الأسرة، حيث يُعرّف الوالد ولده بأهمية سؤاله الذي كان وما زال بؤرة اهتمام ليس فقط للأطفال، بل للكبار والكبار جداً، أي المفكرين والعلماء ورجال الدين والفلاسفة، ومنهم الفيلسوف ابن رشد الذي أجاب على السؤال الآنف بطريقة رائعة لأنه مفكر. – هل تدري ما معنى مفكّر يا ولدي العزيز؟ – نعم، هو مثلك، يستخدم عقله ويتساءل ويتأمل ويبحث ويفكر بجدية كبيرة، حتى إنه يشعر بصداع في رأسه من شدة التفكير.. – لماذا يا والدي؟ – كي يحيب عن مثل هذه التساؤلات التي تبدو بسيطة وسهلة، لكنها معقدة وعميقة. وقد توصّل هذا الفيلسوف الكبير ابن رشد إلى أن المخلوقات والموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتمّ كانت المعرفة بالصانع أتمّ. لذلك، الله تعالى هو خالق الخلائق، فإذا كان الإنسان قد استطاع صناعة الكثير من الصناعات، بما فيها “الإنسان الآلي”، فإن الله جل جلاله هو خالق الإنسان وكل الكائنات والأكوان، أنت تعلم يا بني أن الإنسان الآلي، مهما بلغ ذكاؤه، يستطيع المهندس الذي صنعه أن يعيد برمجته وتطويره أو تدميره، لكن خالقنا رحيم رحمن.. لاحظ معي تعاقب الليل والنهار بانتظام، زدقة تصميم الكواكب والنجوم، وهذا العقل أعظم وأخطر ميزة لدى البشر. – معذرة يا والدي، عبارتك الأخيرة متناقضة: العقل عظيم وخطر. كيف؟ – العقل عظيم. هذه واضحة. أتذكر حين كنت في السادسة من عمرك يا ولدي، وذهبنا إلى جدّتك في القرية. كنت تمتطي ظهر البغل وتقوده حيث شئت.. وهو أكبر منك حجماً بكثير.. لو كان يمتلك عقلاً، لما سمح لك بركوبه. بالعقل أقام الإنسان العمران من منازل، ومعابد، ومدارس، ومختلف المؤسسات، وصنع الملابس والأدوات والأجهزة والآلات من سيارات وسفن وطائرات وجرّارات ومصانع أدوية ومختبرات. كما تغلّب على الكثير من المشاكل، كالأمراض المعدية والمجاعات والحروب والصراعات. بالعقل، استطاع الإنسان توفير الأمن
في ضرورة استعجال الفلسفة للأطفال!؟ قراءة المزيد »