تعتبر مرحلة الطفولة مرحلة الأسئلة الغزيرة بامتياز، إذ تتدفق أسئلة الأطفال بتلقائية وعفوية غير متوقعة أحياناً، ما قد يُسبّبُ الإحراج للكبار، ولا سيما حين يكون المجال مغلقاً محافظاً (أسرة – مدرسة – مجتمع – دولة).. فضاء يُشيطِـنُ الطفولة أو يحتقرها، ويرى في أسئلتها وقاحة مرفوضة، وغالباً ما تقابل الكثير من أسئلة الأطفال بالصد والمنع والقمع، وخصوصاً حين يعتقد الوالدان أنها علامة على الوقاحة والاستخفاف بقواعد الأدب والاحترام وقفز على الخطوط الحمراء الدينية السياسية الثقافية… من قبيل:
– أين يوجد الله؟
– لماذا المشردون يعيشون وينامون في العراء، بينما الحكام والأغنياء يمتلكون الكثير من القصور؟
– ما السبب في تحول أجساد الكثير من الأطفال اليمنيين إلى هياكل عظمية؟
تلجأ بعض الأسر إلى أشدّ أنواع العقاب لوضع حدّ حاسم لما يرونه تطاولاً سافراً وفحشاً فاجراً من طفل صغير بذيء، وتُشهر أسلحة التعنيف تُجاه المتمرّد الصغير الذي شرع في شق عصا الطاعة، و”العصا لمن عصى”. وبُعَـيْد مدّة وجيزة من العقاب، يبتلع الطفل أسئلته المزعجة، فتتعزّز قناعة الكثيرين بأن العصا نزلت من الجنة لتأديب المنحرفين والآثمين.
قبل أن نصدر حكماً على التربية القامعة للسؤال، ونتائجها الخطيرة والوخيمة، لا بد من تعريف السؤال وأهميته القصوى في حياة الإنسان. الحيوان لا يسأل ولا يتساءل. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك القدرة على السؤال، لأنّه الكائن الوحيد الذي يستطيع “ممارسة التفكير”، بمعنى أن الطفل حين يبدأ بممارسة لعبة السؤال، يجب على الأُسَر أن تفرح كثيراً، ولِمَ لا تقيم حفلة بسيطة لسؤاله الأول وتوثقه؟ لسبب وجيه يتجلى في كون السؤال أهمّ مظهر من مظاهر التفكير اليقظ.. الذي يسمى “التفكير التنويري”.
التفكير عملية شاقة وصعبة، وهو يستلزم مجموعة من الشروط للنمو والتطور والتقدم. لذلك، يعتبر السؤال والتشجيع على التساؤل من أنجح الآليات المحفّزة للتفكير الذكي، إلى درجة أن الفيلسوف كارل ياسبرز اعتبر الأسئلة أهم من الأجوبة في الفلسفة.
ما الذي يجعل السؤال أهم من الجواب؟
قبل الجواب عن هذا السؤال، لا بدّ من أن نتعرّف إلى خطّ آليات التفكير الذي يضمُّ العديد من العمليات الفكرية، التي قد تبدو في منطوقها بسيطة ومألوفة وبديهية وعادية، بيد أنها صعبة جدّاً وشديدة الغموض ومعقدة جداً، وهذا ما أكّدته الأبحاث والدراسات المرتبطة بعلوم التربية، ولا سيما المختصة بمجال التّعلّم، كعلم نفس النمو والسيكولوجيا المعرفية والعلوم العصبية، التي كشفت أن ممارسة التفكير تتطلب بناء شبكة من العمليات التي تُـسْــتـَـنْــبـَـتُ وتـزْدَهِر وتتقوّى أو تُــشــوّه وتُكسَرُ أو تُقتلع في مرحلة الطفولة. من هنا نفهم حساسية الطفولة.
من بين العمليات الفكرية التي تتفتّــحُ مزهرة باكراً لدى الأطفال: الدهشة l’étonnement. الغريب أن دهشة الأطفال تتشابه كثيراً مع دهشة الفلاسفة، فإذا كان الكبار من عامة الناس لا يندهشون إلا إزاء ما هو غريب وغير مألوف، كرؤية سمكة برأسين أو توأم سيامي، فإن الأطفال يندهشون لما نعتبره حدثاً عادياً كموت شخص عزيز، على شاكلة هذه الأسئلة:
– لماذا تضعون أخي في هذه الحفرة؟
– لقد مـــات!
– ما معنى مات؟
– لقد سافر إلى السماء.
– أخي لم يُسافر، لقد قتله جندي “إسرائيلي”؟
طبعاً، إن الكثير من الأجوبة التي سنقدمها لأطفالنا في هذه الحالة لن تقنعهم، وسيجابهونها بأسئلة تَحفُـر في الأعماق بغية بلوغ الحقيقة. من هذا المنطلق، تفهم عبارة أرسطو “الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف”.
لكن ماذا لو قمعنا حق الأطفال في الدهشة والسؤال؟
من المفترض أن المنع المنتظم لحق الأطفال في ممارسة الدهشة بأسئلتها الجريئة، والتي تتأرجح إحراجاتها بين التابوهات الدينية، الجنسية، الاجتماعية، والسياسية.. قد يفضي إلى نتائج متفاوتة الضّرر على آليات تفكير الطفل، تترجم عبر مؤشرات مرَضِية دالّة، مثلاً: استبدال الدهشة اليقِظَة بالشرود الساذج، وكبت السؤال العفوى الجريء بمسكوكات لغوية ميكانيكية لتجنّب التوبيخ والعقاب، وانزلاق الطفل إلى الطاعة العمياء التي تقتل بداخله أهم خصائص التفكير الذكي وعملياته، ومن أبرزها: الــــشّـــــكّ le doute.
– مَن خلق المخلوقات؟
– يتساءل الطفل بكل براءة وعفوية. يكتم الأب غضبه، وأيضاً رغبته في صفع طفله “الوقح”. وقد يجيب: يا ولدي، تسأل من خلق المخلوقات؟ أين يوجد الله؟ الله يا بني هو الذي خلق المحلوقات، الله يوجد في كل مكان، “وهو معكم أين ما كنتم”.. قد يقول الطفل ببراءة أكثر: لكني لم أره أبداً يا والدي.
هنا، لا بد أن يمتلك الوالدان رحابة الصدر ورجاحة الفكر، لا التهديد بالنار والجحيم، لأن الطفل في حالة شك، وهي ليست حالة كفر وتمرّد، بل حالة تردّد بين الإثبات والنفي، هي حالة فقدان التوازن في رحلة تأسيس الحقائق حول الحياة والخالق والخلائق.
من خلال أمثلة بسيطة تناسب سن الطفل وذكاءه، يستطيع الأب أن “يفوز” بمناظرة رائعة بينه وبين طفله. هذه النظرة الإيجابية لشك الطفل في الآراء السائدة والأفكار الشائعة والعادات الموروثة والأحكام المسبقة، هي التي ستكسب الطفل السعادة بتعبير الفيلسوف أبيقور Épicure، وليس فقط الطمأنينة. نعم، الفلسفة هي ما يجعل الناس سعداء، هكذا يصبح الحوار الذي أطلقه سؤال الطفل الصغير سفراً ممتعاً لكل أفراد الأسرة، حيث يُعرّف الوالد ولده بأهمية سؤاله الذي كان وما زال بؤرة اهتمام ليس فقط للأطفال، بل للكبار والكبار جداً، أي المفكرين والعلماء ورجال الدين والفلاسفة، ومنهم الفيلسوف ابن رشد الذي أجاب على السؤال الآنف بطريقة رائعة لأنه مفكر.
– هل تدري ما معنى مفكّر يا ولدي العزيز؟
– نعم، هو مثلك، يستخدم عقله ويتساءل ويتأمل ويبحث ويفكر بجدية كبيرة، حتى إنه يشعر بصداع في رأسه من شدة التفكير..
– لماذا يا والدي؟
– كي يحيب عن مثل هذه التساؤلات التي تبدو بسيطة وسهلة، لكنها معقدة وعميقة. وقد توصّل هذا الفيلسوف الكبير ابن رشد إلى أن المخلوقات والموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتمّ كانت المعرفة بالصانع أتمّ. لذلك، الله تعالى هو خالق الخلائق، فإذا كان الإنسان قد استطاع صناعة الكثير من الصناعات، بما فيها “الإنسان الآلي”، فإن الله جل جلاله هو خالق الإنسان وكل الكائنات والأكوان، أنت تعلم يا بني أن الإنسان الآلي، مهما بلغ ذكاؤه، يستطيع المهندس الذي صنعه أن يعيد برمجته وتطويره أو تدميره، لكن خالقنا رحيم رحمن.. لاحظ معي تعاقب الليل والنهار بانتظام، زدقة تصميم الكواكب والنجوم، وهذا العقل أعظم وأخطر ميزة لدى البشر.
– معذرة يا والدي، عبارتك الأخيرة متناقضة: العقل عظيم وخطر. كيف؟
– العقل عظيم. هذه واضحة. أتذكر حين كنت في السادسة من عمرك يا ولدي، وذهبنا إلى جدّتك في القرية. كنت تمتطي ظهر البغل وتقوده حيث شئت.. وهو أكبر منك حجماً بكثير.. لو كان يمتلك عقلاً، لما سمح لك بركوبه. بالعقل أقام الإنسان العمران من منازل، ومعابد، ومدارس، ومختلف المؤسسات، وصنع الملابس والأدوات والأجهزة والآلات من سيارات وسفن وطائرات وجرّارات ومصانع أدوية ومختبرات. كما تغلّب على الكثير من المشاكل، كالأمراض المعدية والمجاعات والحروب والصراعات.
بالعقل، استطاع الإنسان توفير الأمن الغذائي، وتكريس التربية، وتشييد الحضارة الإنسانية، وتوفير سُبل الراحة والصحة والعيش الكريم. لكن بالعقل أيضاً خطط الإنسان للمؤامرات والمآسي التراجيدية، وانتهاك حقوق الإنسان، وتدمير الطبيعة، واستعباد الإنسان، وسرقة الأوطان. بالعقل، صنع الإنسان الأسلحة النووية والجرثومية والدبابات والطائرات الحربية، وأشعل فتيل الحروب العالمية والنزاعات العرقية والهوياتية والإبادات الهمجية.
– ما معنى الإبادات الهمجية؟
– حين أتيت تبكي أمس لأن عادل قتل القطة وصغارها، وكنت حزينا جداً، لم تكن راضياً عن سلوك عادل، لأن ما فعله كان ظلماً في حق القطة وصغارها. لقد قتلهم جميعاً. هذا القتل الجماعي يُسمى إبادة، وهو إبادة همجية، أي أنه قتل وحشي، على غرار ما تفعل الوحوش المفترسة. هو قتل بلا رحمة، هكذا تكون الإبادة الهمجية جريمة وحشية، وهذا ما فعله الأميركيون بالسكان الأصليين؛ أصحاب الأرض.
وتُسمّى أيضاً تطهيراً عرقياً، إذا كان القتل يهدف إلى القضاء على عرْقٍ بشري، كما هو الحال في فلسطين المحتلة، حيث يقوم المحتل الصهيوني بالإبادة الهمجية للفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال الأبرياء، مثل الشهيد الطفل محمد الدرة. هذه الجرائم تسمى جرائم ضد الإنسانية، لأنها لا تخضع لمبدأ التقادم، وتبقى خاضعة للمقاضاة لتحقيق العدالة، مهما طال الزمان، ومهما حاول القتلة طمس جريمتهم ومسح ذاكرة الشعوب، إذ إن العقل في جوهره تعقُّل والذاكرة تقاوم النسيان.
أرأيت يا ولدي؟ لقد بكيت بحرقة لقتل القطط، فما بالك بقتل أطفال أبرياء وأشخاص بغية سرقة ممتلكاتهم وسلبهم وطنهم أعزّ وأنفس ما يملكون؟ إن بكاءك يعني أن ضميرك حي، وأنك تميز بين الخير والشر، والعدل والظلم، والفضيلة والرذيلة.. وقدرتك على التمييز هي دليل على أنك لا تمتلك عقلاً جيداً فقط، بل إنك تستخدمه بطريقة جيدة، لذا أنا فخور بك جدّاً.. وهذا معنى قول الفيلسوف ديكارت: “لا يكفي أن يكون لك عقل جيد، لأن الجيد هو أن تستخدم عقلك بشكل جيد”.
هذا التفكير الجيد هو الاستخدام الجيد للعقل، الذي نسميه تفلسفاً، نسبة إلى الفلسفة التي هي ممارسة التفكير العقلاني الحر، والمساءلة النقدية للأفكار الجاهزة والآراء السائدة والأحكام المسبقة، للتمييز بين ما هو صائب فيها من الخطأ، مثلاً: إذا كان إطعام القطط فعلاً صائباً، فإن قتلها سلوك خاطئ متوحش. ماذا ستختار يا ولدي الخطأ أم الصواب؟
– طبعاً يا والدي سأختار الصواب. سأطعم القطط، كما أنني لم أعد أتنمّرُ على أختي الصغيرة، وسأنصح صديقي خالد ألا يتبول مرة أخرى على شجرة الزيتون، وسيقوم تلامذة قسمي رفقة الأستاذ المحترم بزيارة ملجأ الأيتام. هذه الأمور تُشعرني بالسعادة يا أبي.
– أجل يا ولدي، إن أكبر وظيفة للتفكير الجيد (التفلسف) هي أن يحيا الناس في سعادة دائمة، وإذا أردت أن تعيش سعيداً فعليك ألا تتوقف عن التفلسف، لأن العلاقة بين الفلسفة والسعادة كما رأيت عي علاقة تلازمية، وكلما أصبحت تسأم من التفكير فهذا يعني أنك أصبحت ترفض السعادة وتختار الشقاء، وبالمناسبة هذه وجهة نظر الفيلسوف أبيقور وليس رأيي فقط.
– ألست صغيراً على التفلسف يا والدي؟
– سؤالك هذا يا ولدي من التساؤلات المهمة التي شغلت المفكرين والمربين. وقد اختلفت الأجوبة بصددها بحسب رؤية الفلاسفة وانشغالاتهم. فأفلاطون من الذين اعتبروا الفلسفة تتويجاً لمسار طويل من التكوين والتعلمات التي تؤدي فيها الرياضيات دوراً حاسماً. لذلك، وضع على باب أكاديميته الفلسفية شعار “لا يدخلنها إلا من كان رياضياً”، فالفيلسوف يجب أن يمتلك عقلاً رياضياً برهانياً، يستطيع استيعاب وهضم الإشكالات الكبرى للدولة، بعد أن ينجح في الكثير من المراحل التعليمية فيعرف المنطق، والفلك، والهندسة، والسياسة، وتتوج بالدراسات الفلسفية، والنتيجة هي تأخير سن تعلم الفلسفة، وبالتالي لا تستغرب سن الخمسين، على اعتبار أن الأمر يتعلق بتكوين رجال الدولة وتدريب الحكام، والساسة، والمفكرين، ونخب المدينة المستقبليين (أوصياء الدولة)، نظراً إلى أن أفلاطون كان يريد استبدال نظام الحكم الفاسد بدولة يقودها الفلاسفة والعقلاء.
أما هدف أبيقور، فقد كان أخلاقياً في الأساس، يروم إصلاح الفرد بعدما يئس من إمكانية إصلاح الدولة. لذلك، يجب على الإنسان في كل مراحل حياته أن يتفلسف كي لا ينزلق في الرذيلة، وألا يخشى ضياع فرص الحياة المزيفة، لأن السعادة تكمن في الحقيقة لا الوهم، وهذا يستوجب أن يتغلب الصغار على التردد، وينغمسوا في التفلسف، وهو انغماس في السعادة.
أما الكبار، فعليهم أن يتفلسفوا، وأن يواصلوا ذلك. إن ضرورة استعجال الفلسفة للأطفال في اللحظة الراهنة هي أشبه بضرورة المستعجلات لطفل ينزف بشدّة، والأكثر خطورة أن هذا النزيف داخلي وخارجي. التحديات التي يواجهها الصغار في عالمنا الموحش متنوعة، بدءاً من تحدي البقاء على قيد الحياة جراء الإفقار المنتظم، والأوبئة الطبيعية والمصنعة، والتجهيل الذي أصبح علماً وهندسة لصناعة القطيع الذي يخضع ويتبع، ولا يفكر ولا يسائل. الحرمان من ممارسة التفكير هو الذي سهل المسخ الهوياتي وظهور جيل يجهل تاريخه ومصيره، ويسلم عنقه للجزارين والسفاحين، ويتوهم أنه إسماعيل مع الخليل إبراهيم.
تعطيل العقل يا ولدي أفضى إلى نجاح مخططات الإلهاء وظهور أساطير معاصرة، وتحكم نظام التفاهة في حياة البشر، حيث يتقاضى لاعب كرة 30 مليون يورو، بينما يموت ملايين البشر جوعاً وعطشاً، والكثير من البؤساء لا يوفر لهم عمل يوم يورو واحد. وتمتد الأساطير المعاصرة إلى التلاعب بمؤسسة الأسرة المقدسة بصناعة الجنس الثالث والرابع. هكذا يصبح الفساد مقدساً، وتسرق الأوطان، ويقتل المسلمون في الهند وبورما ونيوزيلاندا وفلسطين.. وتقلب الحقائق بوصفهم بالإرهابيين.. ويسود الظلام أكثر كلما تعطل العقل أكثر.. كلها تحديات ورهانات لن تُحل وتربح إلا بممارسة التفكير النقدي والتفلسف. لهذا، يجب استعجال الفلسفة للأطفال.