مدخل:
تعرفنا في المجزوءة الأولى “الوضع البشري” على الإنسان باعتباره “شخصا”، بمعنى ذاتا واعية مفكرة حرّة مريدة ومسؤولة، كما أنه ينوجد مع “الغير” ضمن تفاعلات معرفية وعلائقية تستدعي حضور استراتيجيات التفكير والمعرفة.
إن ما يجعل الوضع البشري وضعا مُفكّرا فيه، هو أنه وضع كائن يمتلك نشاطا عقليا يُسمى “المعرفة” وهو ما يعرف في الفلسفة بمبحث الإبستمولوجيا، وهذا ما سنحاول اكتشافه عبر المجزوءة الثانية: المعــرفــة.
تعتبر المعرفة نشاطا إنسانيا وفعالية بشرية، ينتجها الإنسان، وهي تتطلّبُ وجود ذاتاً عارفةً وموضوعا للمعرفة، وسنعمل عبر سيرورة هذا الدرس على مقاربتها انطلاقا من مفهومين مركزيين:
-
المفهوم الأول: هو مفهوم مركب “النظرية والتجربة” بغية تسليط الضوء على نمط خاص من المعرفة، وهو “المعرفة العلمية”.
-
والمفهوم الثاني: هو مفهوم“الحقيقة” التي تعتبر غاية كل بحث معرفي، حتى أن الفلسفة تعرف منذ نشأتها بكونها بحثا عن الحقيقة، غير أن هذه “الحقيقة” تطرح أمام الإنسان الكثير من الإشكالات سنعمل على فك بعض ألغازها عبر مسارات هذا النبش الفلسفي.
المفهوم الأول: النظرية والتجربة
تقديم:
حينما نفكر فلسفيا في “المعرفة العلمية” نتوجّه مباشرة إلى مفهوم النظرية والتجربة، إذ لا معارف علمية بدون نظريات تقودها وتوجهها، ولا حقائق في العلم بدون تجارب تؤكدها وتثبت صدقها.
يطرح المفهوم الزوجي النظرية والتجربة إشكالا منهجيا ونظريا يتعلق بشروط إمكان البناء النظري أو استحالته، مما يطرح بصورة كبيرة حدود المعرفة النظرية، خصوصا أمام علاقة الصراع بين نظرية تحيل ترتبط بالعقل، وتجربة تحيل إلى الواقع، وهو صراع يأخذ طابعا علميا يجعلنا نسائل الوضع والقيمة الإبستمولوجية لمفهوم “العلم”.
النظرية La théorie :
تتعدد تعاريف “النظرية” ومن بينها حسب معجم روبير: “النظرية هي مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة، المنظمة قليلا أو كثيرا، والمطبقة على ميدان مخصوص”، وفي معنى ثان النظرية “بناء عقلي منظم ذو طابع فرضي تركيبي”، كما عرفها الفيلسوف الفرنسي لالاند في معجمع بأنها “هي إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ”.
هكذا فالنظرية في معناها الاصطلاحي التأملي هي نسق من المبادئ والقوانين والمفاهيم ينظم معرفتنا بمجالات خاصة من الواقع، ويتضمن هذا النسق بناءا منطقيا له مكوناته ويخضع لنظام فرضي استنباطي.
التجربة L’ expérience:
في معناها العام تدل التجربة على “مجموع المعارف والخبرات التي يكتسبها الإنسان في علاقته المباشرة من الواقع، وأيضا الحنكة والإتقان التي يكتسبهما الإنسان اعتمادا على خبرته الذاتية، وبالتالي فهي توجد في أساس كل معرفة إنسانية.
أما دلالتها الخاصة فتعني “مجموع العمليات التي يتم بمقتضاها إحداث ظاهرة ما في المختبر، بهدف دراستها والوصول إلى بناء معرفة حولها. والتجربة بهذا المعنى هي التي تمكن من معرفة القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية، وهي تقتصر على الممارسة العلمية الدقيقة كممارسة تتأسس فيها المعرفة على التجريب العلمي.
هكذا يطرح مفهوم التجربة إشكالا عميقا يتعلق بمسألة التمييز بين التجربة بمعناها العام والتجربة بمعناها العلمي، وهو المعنى الذي يعبر عنه بالتجريب.
كما تفرزعلاقة النظرية بالتجربة عدة مفارقات وإحراجات نعبر عنها من خلال التنائيات التالية: الذات/الموضوع، التجربة العامية/التجربة العلمية، العقل/الحواس، الفكر/ الواقع، العقلانية/التجريبية، وغيرها من الإشكالات الإبيستملوجية داخل المعرفة العلمية الدقيقة، سنعمل على مقاربة بعضها عبر مسارات اشتغالنا الفلسفي.
المحور الأول: التجربة والتجريب
-
الإشكالية:
إذا كان العلم هو علما بواقع ما، يستلزم استحضار هذا الواقع كمنطلق لبناء المعرفة العلمية وتمحيص صدقها أو عدمه، فإن عملية الاستحضار هذه، تقودنا إلى إثارة مسالة التجربة والتجريب، مما يدفعنا إلى بسط هذه التساؤلات:
– ما دلالة الإختلاف والتمايز بين االتجربة والتجريب؟
– وما هي خطوات المنهج التجريبي وكيف يقود التجريب إلى بناء النظرية العلمية؟
– ما دور كل من العقل والخيال في العلم؟ هل التجربة دائما مخبرية، أم يمكن الحديث عن تجربة ذهنية رياضية (الخيال العلمي)؟
-
موقف الإبِّستيمولوجي ألكسندر كويري Alexandre Koyré :
في كتابه “دراسات غاليلية” يؤكد ألكسندر كويري (A.Koyré) أن التجربة بمعناها الخام هي مجرد ملاحظة عامية لم يكن لها أي دور في نشأة العلم الكلاسيكي، بل شكلت عائقا أمام قيام النظريات العلمية، لكونها تنتمي إلى المعرفة ما قبل العلمية، لخلوها من الشروط النظرية والموضوعية، في حين أن التجريب هو المساءلة المنهجية للطبيعة، وهويعتمد فيها لغة رياضية وهندسية قادرة على قراءة كتاب الطبيعة وتحديد العلاقات الثابتة بين ظواهرها.
حسب كويري العلم الكلاسيكي تميز بإضفاء الصفة الهندسية على المكان، وتجاوز الانطلاق من الكوسموس أي ما تقدمه لنا الحواس مباشرة.
وبالتالي فإن التجريب العلمي إذن يتجاوز التجربة العادية ويقطع معها، لأنه يتأسس على مبادئ عقلية ومناهج علمية وأدوات تمكن من بناء المعطى الطبيعي وتسائله انطلاقا من الفكر من أجل بناء معرفة جديدة بصدده، وهي المعرفة التي لا يمكن للتجربة الحسية أن تدركها ما دامت تقف عند ما هو معطى وظاهري وتتقبله بشكل سلبي.
-
موقف كلود برنار Claude.Bernard :
يؤكد العالم والطبيب الفرنسي كلود برنار في كتابه (مدخل لدراسة الطب التجريبي) أن “التجريب هو انفتاح على الواقع وإنصات للطبيعة بالاعتماد على خطوات منهجية ونطرية، ينبغي على العالم أن يكون مُلِمّا بها ، كشروط ومبادئ منهجية ونظرية لبلوغ الحقيقة العلمية، ويتحدد المنهج التجريبي حسب كلود برنار من خلال مجموعة من الخطوات، تبدأ بالملاحظة ثم تتلوها الفكرة العقلية (الفرضية) التي تسعى إلى تفسير الظاهرة، وبعد ذلك يتم التأكد من الفرضية المفسرة عن طريق التجربة العلمية التي تعتبر معيارا للتحقق من صحة الفرضية أو عدم صحتها، وأخيرا صياغة القانون العلمي الذي هو يمثل مجموع العلاقات الثابتة بين الظاهرة المدروسة والأسباب المنتجة لها. انطلاقا من كل هذا يحدد كلود برنار خطوات المنهج التجريبي التي تجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية، حيث تأتي الملاحظة الموجهة بتصورات نظرية في بداية هذا المنهج، لكي تتبعها فكرة عقلية منبثقة عنها، هذه الفكرة التي يتم الاستدلال عليها انطلاقا من التجربة والوصول إلى قانون علمي. (مثال: تجربة بول الأرانب).
نستنتج مما سبق أن التجريب العلمي هوإعمال حقيقي للفكر وللعقل من أجل استفزاز الطبيعة وإرغامها على البوح بأسرارها، في حين تظل التجربة العامية تقبلا سلبيا لما يحدث لنا ويؤثر فينا من وقائع خارجية، بمعنى أن التجربة العامية تجعل الإنسان في موقف المنفعل، في حين يجعله التجريب العلمي في موقف الفاعل، كما تقف التجربة عند حدود ما هو معطى وظاهري، في حين يستنطق التجريب الظواهر ويبني بصددها معرفة جديدة وعميقة لا يمكن الوصول إليها عن طريق التجربة العامية المباشرة.
-
تصور عالم الرياضيات روني طوم:
إذا كان التجريب حسب التصور التقليدي هو معيار للتحقق من الفرضية، فإن روني طوم يرى في كتابه “Philosophie des sciences d’aujourd’hui”أنه لا يمكن الحديث عن فرضية علمية غير مؤسسة على نظرية سابقة، فكل نظرية تتضمن في نظره كيانات خيالية يتم التسليم بوجودها، مما يعني أن لعنصر الخيال العقلي دور كبير في التجريب العلمي.
يؤكد روني طوم أن التجريب وحده لا يمكّن العالِم من التحليل السببي لظاهرة ما، لأنه يبقى وحده عاجزا اكتشاف سبب أو أسباب الظاهرة، لذلك ينبغي إكمال التجريب الواقعي بالتجريب الذهني، بالاعتماد على التجربة العقلية الخيالية التي تخرج العالم من سجن خطوات المنهج التجريب الكلاسيكي، لأن ما يسهل التجربة والتأكد منها يمكن أن يكون الخيال والافتراض وليس دائما الواقع.
-
مثال توضيحي لأهمية العقل في بناء المعرفة العلمية:
إن هذا القول المؤيد لدور العقل وابتكاراته المتخيلة، يمكن أن نجد له تفسيرا في الوضع العلمي الراهن، سواء على مستوى الرياضيات أو الفيزياء وغيرها من العلوم الطبيعية والإنسانية، حيث أصبح للفرض العملي دور أساسي في بناء النظرية العلمية، ويتجلى هذا الأمر في ذلك الاهتمام الذي توليه هذه العلوم للصياغة الأكسيومية Axiomatique لنظريتها، هذه الصياغة التي لم تعد تهتم بمدى مطابقة رموزها الرياضية المختارة بشكل حر مع ما يجري في الواقع الحسي التجريبي، بل أصبح المطلوب هو انسجام العَالم وعدم تناقضه مع الأوليات التي انطلق منها، إلا أن هذا لا يعني إقصاء التجربة من كل بحث علمي، بل إعطاؤها معنى جديدا يتماشى مع التطور الذي عرفه العلم على جميع مستوياته النظرية والعملية، بحيث أصبح موضوع العلم، لا يعطى في التجربة الحسية المباشرة، بل يبنى عقليا؛ فالكون الماكرو-فيزيائي Macrophysique باعتباره واقعا، هو بدرجة هائلة من الكبر والاتساع، يعجز معه العلم -بأدواته وتقنياته المتطورة- الإحاطة به في شموليته، كما أن عالم الذرة اللامتناهي في الصغرMicrophysique، قد برهن هو أيضا على صعوبة التقيد بالتجربة بمعناها الكلاسيكي.
فإذا كانت التجربة سابقا تتم عن طريق توفير الشروط اللازمة لحدوث الظاهرة المدروسة حيث يعاد إحداثها ثانية في المختبر، فإن الأمر يخالف ذلك في مجال الميكروفيزياء، حيث تصعب إعادة إحداث الظاهرة بتوفير نفس الشروط، لأن تلك الشروط تتغير من لحظة لأخرى، فالإلكترون Electron لا يدور على النواة في مجال واحد محدد بالضبط، بل له أكثر من مدار، مما يطرح صعوبة تحديد موقعه وسرعته في نفس الوقت، فإذا اقترب العالم من تحديد قياس سرعته، تضيع منه إمكانية تحديد موقعه، وإذا اقترب من قياس موقعه تضيع منه إمكانية تحديد سرعته؛ وهنا يتدخل الاحتمال كنشاط عقلي منطقي، ليحاول تقديم تفسير مؤقت لهذه الظاهرة الفيزيائية التي استعصت عن التجربة بمعناها التقليدي، فالعلاقة هنا بين موقع وسرعة الإلكترون، لم تعد بالعلاقة الثابتة المضبوطة بقياس دقيق، بل بعلاقة الارتياب l’incertitude والنسبية القائمة على النقد والتقدم كما عبر عن ذلك العالم الالماني الحائز على جائزة نوبل فرنين هايزنبرغ . Werner Heisnber.
التجربة هي معطى تتقبله الذات بشكل مباشر ولا دخل للفكر في اصطناعه:
يرى فردناند ألكيي Ferdinand.Alquié أن التجربة تشير إلى وقائع متمايزة عن الذات، وأن هذه الأخيرة تخضع لها وتتقبلها بشكل سلبي دون تدخل أي اصطناع أو بناء من طرف الفكر. هكذا فالتجربة معطاة وليست مبنية، كما أنها تكون موضع معاينة مباشرة من طرف الذات التي تعيش أثناءها نوعا من الخضوع والمعاناة والتقبل السلبي. هكذا فالمفهوم الفلسفي للتجربة عند ألكيي يشير إلى المعاينة الخالصة والمباشرة للواقع من طرف الذات، بحيث يغيب أثناءها فعل التجريب الذي تقوم خلاله الذات بإخضاع المعطى الواقعي لصالحها وتعمل على استنطاقه وبناء معرفة بصدده عن طريق تدخل الفكر.
وهذا ما سيجعلنا نقدم مزيدا من التمييز بين مفهومي التجربة والتجريب.
-
ألبير جاكارAlbert.Jacquard:
يرى ألبير جاكار أننا لا نرى العالم بأعيننا، بل ندركه بمفاهيمنا. فالعقل العلمي الذي يستند على مفهوم التجريب هو الذي يجعلنا نعتبر مثلا أن الشمس نجما من النجوم وذلك ضد بداهة الإدراك الحسي الذي يرتكز على التجربة والخبرة الحسية العادية. كما أن سقوط التفاحة هو مجرد واقعة حسية عادية، في حين أن دوران الأرض حول الشمس هو نظرية ثم إثباتها من خلال مجموعة من البراهين و الوقائع العلمية التي تثبت صحتها. فالتجريب يعبر إذن عن تلك العمليات التي يقوم بها العقل، بواسطة أدواته العلمية، من أجل السيطرة على المعطيات الحسية واستنطاقها والربط بينها وفق شروط معينة، وصولا إلى إنتاج نظريات علمية، وهنا يدعونا ألبير جاكار إلى التمييز بين التجربة التي تعبر عما يعطانا مباشرة من قبل الظواهر الطبيعية، وبين التجريب الذي يقوم من خلاله العالم بإخضاع معطيات الواقع الطبيعي لشروط يمليها ويحددها الفكر العلمي.
المحور الثاني: العقلانية العلمية
-
الإشكالية:
– إذا كانت النظرية العلمية هي مجموع المبادئ والمفاهيم والقوانين المنظمة في علاقتها بموضوع علمي معين، فمن أين تستمد وجودها ومعقوليتها؟
– هل من معطيات التجربة أي من الظواهر الواقعية التجريبية حيث يكون للعقل دور ثانوي في عملية بنائها أم أن النظرية العلمية هي إنشاء عقلي حر يجد أساسه في مبادئ العقل وقواعده المنطقية، أم هي علاقة حوار بين العقل والتجربة؟
الإتجاه الإختباري الوضعي:
-
العالم ارنست ماخ Ernst Mach :
ينتمي العالم الفيزيائي النمساوي ماخ إلى الاتجاه الوضعي الكلاسيكي، إذ يؤكد أن الروح العلمية تقتضي منا التقيد بمعطيات التجربة وحدها دون افتراض شيء آخر وراءها. فمهمة العلم تكتفي بقياس المقادير كما تتجلى لنا مباشرة وتعطى لنا في الملاحظة، إما على شكل طاقة أو كثلة أو ضغط أو حجم أو حرارة، فدور الحسم إذن في بناء النظرية العلمية هو للتجربة وحدها وليس للفرض العقلي أو الاستنتاجات الرياضية، لأن الفرض العقلي يجعلنا نبتعد عن الوصف الدقيق للظاهرة المدروسة، ونقوم بتفسيرات قد تفضي بنا إلى افتراضات متخيلة وتنبؤات لا أساس لها في الواقع التجريبي.
-
العالم بيير دوهيم Pierre Duhem :
يُحذِّرُ العالم الفيزيائي الفرنسي دوهيم من أن النظرية الفيزيائية ستكون تحت وصاية الميتافيزيقا إذا حاولت أن تفسر الواقع المادي، لأن هذا التفسير لا يمكن أن يستند إلا على فرضيات عقلية وليس على معطيات التجربة، وبالتالي فالنظرية الفيزيائية تكون صحيحة لا لأنها تقدم تفسيرا للظواهر الحسية مطابقا للواقع، بل لأنها تعبر بكيفية مرضية عن مجموعة القوانين التجريبية، لذا يقترح دوهيم للنظرية دورا آخر غير الدور التفسيري الذي يشكل عائقا أمام التقدم العلمي، إنه الدور التمثيلي . (التوضيح من خلال تجربة باسكال: صعود السوائل في الأنابيب).
الإتجاه العقلاني التأملي، عقلانية الفكر الخالص:
-
العالم ألبرت انشتاين Albert Einstein :
يُسائل إنشتاين الاتجاه الاختباري بقوله: “إن كانت التجربة في بداية معرفتنا للواقع وفي نهايتها، فأي دور يتبقى للعقل في العلم” يجيب اشتاين بقوله: “العقل يمنح النسق الفيزيائي بنيته، أما معطيات التجربة وعلاقتها المتبادلة، فيجب أن تطابق نتائج النظرية”.
يُـبـَيِّنُ هذا القول إن المعرفة العلمية – داخل علم الفيزياء كنموذج- تتكون من مفاهيم وقوانين ينشئها العقل، ويقوم ببنائها واستنتاجها منطقيا، هذه الممارسة العقلية هي التي يبحث العالم بعد إنشائها عن مدى تناسبها وتوافقها مع التجريب، ومنه فالنظريات العلمية المعاصرة أصبحت شبكة من العلاقات الرياضية الافتراضية التي ينشئها الفكر دون الرجوع إلى التجربة، إنها تستمد صلاحيتها ومصداقيتها من انسجامها المنطقي وامتثالها لشروط المنهج الأكسيومي بكل ما يتميز به من رمز وتجريد ومنطق.
ومن ثمة لم يعد المبدأ الخلاق في العلم يوجد في التجربة بل في الرياضيات المبدعة التي باتت هي الخالقة للنظريات الفيزيائية المعاصرة والتي تمنحها نجاعتها وقوتها المنطقية، وأيضا استباقها للمعاينة المادية والملاحظة كما وقع مع بنية الذرة في الفيزياء الذرية الميكروفيزيائية أو الماكروفيزيائية في علم الفلك مثلا.
العقلانية التطبيقية:
-
الإبستيمولوجي غاستون باشلار Gaston Bachelard :
إن فهم عمل الفيزياء المعاصرة وإدراك قيمتها المعرفية والفلسفية لا يتأتى إلا من خلال يقين مزدوج وعلاقة جدلية بين العقل والتجربة، وهو اليقين الذي يجعل الواقع خاضعا لما هو عقلي، مثلما يجعل ما هو عقلي مستنبطا من صميم لحظات ما هو واقعي تجريبي.
انطلاقا من ذلك فإننا لا نستطيع أن نتحدث عن عقلانية فارغة من أي محتوى تجريبي مثلما لا نستطيع أن نتحدث عن أي اختبارية غير مسترشدة بما هو عقلي وإلا ستكون اختبارية عمياء، وبناء عليه فإن العقلانية العلمية تقوم على إمكانية القيام بالتجارب، إلى جانب إمكانية الاشتغال بالرياضيات، وهو ما يجعل من هذه العقلانية فلسفة مؤسسة على حوار يتسم بالدقة، ويقوم على روابط وثيقة بين العقل والواقع، عكس ادّعاءات الصراع الفلسفي التقليدي بين العقلانيين والتجريبيين.
إن العقلانية العلمية لم تعد قائمة على مثل تلك المواجهة بل أصبح العلم متموضعا ضمن جدلية: عقل/موضوع، بحيث يشير العقل إلى البعد النظري في هذه العقلانية، أما الموضوع فإنه يشير إلى البعد التجريبي، وهي الجدلية القائمة على جعل العقل مشروطا بموضوع معرفته من جهة، وجعل التجربة محددة بشكل أدق من خلال التدخل العقلي من جهة ثانية، وهذا ما يسميه باشلار بالعقلانية المطبقة (حوار عقل تجربة) أو المادية المبنية (حوار تجربة عقل).
المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية
المعيارLe critére : كل ما يعير به، أي يقاس به غيره ويسوى، إنه المرجع الذي تميز وتصنف به الأشياء والمفاهيم، وبه نحكم على قضية ما أنها صحيحة أو خاطئة.
-
الإشكالية:
-إذا كانت النظرية العلمية نسق من المبادئ والقوانين المنظمة في علاقتها بموضوع علمي معين، فكيف يتم للعلماء التحقق من علميتها وصلاحيتها؟
-هل يتم ذلك بالرجوع إلى معيار التماسك المنطقي لبنيتها الداخلي، أم بالرجوع إلى مطابقتها لنسق الوقائع التجريبية التي تفسرها أم أن الامر يستدعي منها معايير أخرى؟
بمعنى آخر ما هو المعيار السليم الذي يمكن من منح طابع الصلاحية والعلمية لنظرية علمية ما؟
الإختبارية الوضعية:
إذا كانت معقولية النظرية العلمية مرتبطة بتنظيم الواقع فإن معيار صلاحيتها لن يكون شيئا آخر غير قابليتها للإختبار التجريبي وهذا ما عبر عنه بيير دوهيم وإرنست ماخ.
العقلانية التأملية:
إذا كانت النظرية بناءا عقليا فعليها الاستجابة لمعايير العقل والتماسك الداخلي والإنسجام المنطقي بين المقدمات التي ينطلق منها العالم والنتائج التي يتوصل إليها وهذا ما عبر عنه ألبيرت انشتاين.
العقلانية التطبيقية:
إذا كان بناء النظرية يقوم على الحوار المزدوج بين العقل والتجربة فإن معيار صلاحيتها مزدوج بين العقل والتجربة، وهذا ما عبر عنه الإبستمولوجي غاستون باشلار، لنظيف أن غاستون باشلار أكد أن الواقع بدلالته التجريبية الكلاسيكية لم يعد هو المنطلق، لم يعد هذا المعطى حكما ولا شاهدا، بل أصبح متهما، لأن العلم يخلق موضوعاته ويركبها، ولا تعطى له بشكل جاهز في الإدراك والخبرة الحسية المباشرة وفي هذا يقول:” كان الباحثون في القرن التاسع عشر، يتخلون عن الفرضيات بمجرد ما يعترضهم أدنى تناقض أو أدنى صعوبة تجريبية (…) أما اليوم فلقد قلب الفيزيائي الجدي، رأسا على عقب ذلك الأفق الذي رسمه للفرضية إن الإتصال بالواقع أصبح مجرد معطى مبهم ومؤقت واصطلاحي.
-
موقف كارل بوبر Karl Popper :
ساهم الفيلسوف النمساوي كارل بوبر سليل مدرسة فيينا، في قلب الطاولة على الوضعيين، حيث لا تستحق في نظره النظرية صفة العلمية بمجرد خضوعها للتجربة، وإنما بقابليتها للتزييف، أي أن العالِم ملزم بتقديم الاحتمالات الممكنة لتكذيب نظريته وإبراز إمكانات هدمها وتجاوزها لأنها لا توجد نظرية علمية مطلقة، بعبارة أخرى لا تكون النظرية علمية إلا إذا كانت فروضها قابلة للتفنيد والدحض، وإلا فإن “النظرية التي لا تتوخى اكتشاف العيب فيها هي نظرية غير قابلة للاختبار العلمي، يقول كارل بوبر: “لا يعتبر أي نسق نظري نسقا اختباريا إلا إذا كان قابلا للخضوع للاختبارات التجريبية ومنه فالقابلية للتكذيب وليست قابلية التحقق هي التي ينبغي أن نتخذها معيارا للفصل بين ما هو علمي و ما ليس علميا”.
يُشبِّه كارل بوبراختبار النظرية العلمية بـ”اختبار جزء من آلة ميكانيكية، بمحاولة تبيُّن العيب فيها” وذلك عبر المراحل الأربع التالية:
-مرحلة التحقق من السلامة الداخلية للنسق النظري .
-مرحلة تحديد الصُّورة المنطقية للنظرية وبيان ما إذا كانت تجريبية أو غير تجريبية .-مرحلة المقارنة بين النظرية المدروسة وباقي النظريات العلمية حتى نعرف بأنها نظرية جديدة.-مرحلة القيام بتطبيقات تجريبية على بعض نتائج تلك النظرية.
وهذا ما جعل كارل بوبر يخرج مجموعة من النظريات من دائرة العلم، كنظرية التطور والنظرية الماركسية، ونظرية التحليل النفسي لمؤسسها فرويد، ونظرية آدلر السيكولوجية التي ترى أن الحافز الأساسي في الأنشطة البشرية هو الشعور بالنقص؟ هل هذا المبدأ قابل للتكذيب؟ يجيبنا بوبر ساخرا من هذه النظرية: لنتصور رجلا يقف على ضفة نهر خطير، وإذ بطفل يسقط في النهر على مقربة منه، ففي حال ارتماء الرجل في النهر لإنقاذ الطفل، فإن الاتجاه الآدليري سيفسر سلوك الرجل بأنه نتيجة لشعوره بالحاجة إلى التغلب على الشعور بالنقص، أما إذا لم يحرك الرجل ساكنا أمام مأساة غرق الطفل، فإن أصحاب الاتجاه الآدليري سيفسرون أيضا سلوك الرجل بشعوره بالنقص، وفي كلا الموقفين لا يمكن تكذيب هذه النظرية السيكولوجية مما يجعلها غير علمية، بل مجرد إيديولوجيا أو ميتافيزيقا؟
تركيب عام:
يتبين من خلال تحليل ومناقشة الإشكالات الإبستيمية المرتبطة بالجدل القائم بين النظرية والتجربة في بناء المعرفة العلمية أنه في عمقه مساءلة لعلاقة الصراع بين النزعة الواقعية والنزعة العقلية، وانقلاب واضح على كل التصورات الكلاسيكية التي كرست هذا التعارض المزيف واستبداله بالتكامل والتعاضد.
حيث أفضى التفكير في المنهج العلمي إلى كجوعة من القيم الإبستمولوجية، من أبرزها أن التجربة لم تعد وحدها أساس التحقق من صحة النظريات وضمان الدقة والموضوعية في التعامل مع الظواهر الملاحظة، بل صار للعقل حضوره البارز، يستبق به العالم تفاعلات الظاهرة المدروسة والمعاينة المادية لها، وفق واقع رمزي، رياضي استنباطي أكثر منه واقع حسي وتجريبي، بل لم يعد هناك فاصل بين ما هو عقلي وما هو واقعي، لأن العالم الذي يجرب لا يمكنه أن يستغني عن الاستدلال، كما أن العالم الذي يستدل لا يمكنه أن يستغني عن التجربة.
بيد أن تورط الخطاب العلمي في قتل التجربة الإنسانية هو ما يعتبرا إشكالا خطيرا للعلم وللإنسان، حيث أصبح العلم سلطة وسلاحا إيديولوجيا، مما جعل العلم مفصولا عن واقعه التاريخي والحضاري، وأخلف وعوده بمنح السعادة للإنسان على حد قول المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي في كتابه “النقد المزدوج”.
المفهوم الثاني: الحـقـيقــة
تمهيد:
تعتبر الحقيقة غاية كل بحث معرفي، بيد أن رحلة البحث عنها، لا تُـكـلَّـل دائما بالنجاح، سيما وأن أعداءها من وهْمٍ، خطأ، كذب، تزييف، إشاعة، وكل ما يندرج ضمن المعرفة العامية.. قد ترتدي لبوس الحقيقة، وإذا كانت المعرفة العلمية، لم تسلم من شباك الأخطاء والأوهام، -هذا ما يفصح عنه تاريخها المثقل ببادئ الرأي، فإن مبحث الحقيقة من الإشكالات الكبرى التي كانت ولا تزال تشغل الفكر الإنساني، وخاصة الفلسفة التي جعلت البحث عن الحقيقة منطلقها وغايتها وبؤرة أسئلتها.
المحورالأول: الرأي والحقيقة
تعتبر الحقيقة la vérité صفة ما هو “حق” ويتم تحصيلها إما بمُطابقة الفكر لذاته لخلوه من التناقض، أو مطابقة القول للفعل لخلوه من الكذب، أو مطابقة الحكم للواقع بخلوه من الخطأ، أو بتطابق جوهر الشئ مع مثاله بخلوه من التزييف، الحقيقة إذن حسب هذه الدلالات تكمن في التطابق والتوافق أي مطابقة الفكر لذاته، وهو نفس المعنى الذي عبر عنه الفلاسفة المسلمين، مطابقة ما في الأذهان لما في الأعيان.
أما الرأي l’opinion وكما حدده لالاندLalande في معجمه الفلسفي: “حالة ذهنية تتمثل في الاعتقاد بصحة قول معين، مع القبول بإمكان الخطأ أثناء حكمنا هذا…” ، فالرأي إذن، هو اعتقاد أو تصديق بوقائع أو بأفكار، لم تخضع للفحص النقدي، يتقبله العقل دون أن ينشغل بشكل جدي في معرفة ما إذا كانت منطلقاته صحيحة أو خاطئة، وترجع كلمة l’opinion في معناها الأصلي إلى الكلمة الإغريقيةDoxa، التي كانت تعني لدى فلاسفة اليونان المعرفة العامية الحسية.
إن هذا التحديد الدلالي لمفهوم الحقيقة تجترحه جملة من المفارقات والإحراجات الفكرية نعبر عنها من خلال التنائيات التالية: الصدق/الكذب، الصواب/الخطأ، الثابت/المتغير، الجوهر/العرض، الواقع/الخيال، اليقين/الظن، الحق/الباطل. وهذا ما يطرح إشكالات فلسفية نعبر عنها كما يلي:
-
الإشكالية:
-ما الرأي؟
-والحقيقة؟
– وما هي الطرق التي تضمن بلوغ الحقيقة؟
– وما العلاقة بين الرأي والحقيقة؟
– هل هي علاقة انفصال وتعارض أم علاقة اتصال وتعاضد؟
– بمعنى هل الحقيقة معطاة لنا في آرائنا أم يتم بناؤها بناء منهجيا منظما ضد المعرفة العامية والرأي والمعتقد والخطأ؟ وبالتالي هل العلاقة بين الرأي والحقيقة علاقة تضاد أم أن الحقيقة يُمكن أن تتأسس على الرأي؟
الفلاسفة اليونان:
بالرجوع إلى الفلسفة اليونانية نجد أن “أفلاطون” كان من أوائل الذين قابلوا بين “الحقيقة” و”الرأي”، إذ كان يعتبر “الرأي” (doxa) مجرد ظن أو تخمين مرتبط بالإدراكات الحسية لدى الإنسان العادي، في حين أن “الحقيقة” تتحدد كـ”معرفة” أو “علم” (L’épistémè) يستند إلى التأمل العقلي الذي يَنْصَبُّ على إدراكـ “المُثُل” كصُوَرٍ نموذجية للأشياء تُعَدُّ كاملة وكلية ومطلقة وخالدة، هكذا فالرأي إنه العائق الذي يجب إزاحته للوصول إلى الحقيقة، لنستمع إلى الفيلسوف سقراط، وهو يسأل تلميذه أقريطون، في محاورة بعنوان: ” أقريطون أو واجب المواطن “، –سقراط: أينبغي أن نتبع رأي الجمهور ونخشاه في موضوعات العدل والظلم والجميل والقبيح والخير والشر…أو نتبع رأي الرجل والواحد الذي يفهمها (الإشارة هنا إلى الفيلسوف)، وهل تساوي الحياة شيئا إذا ما فسد من الإنسان جزؤه الأسمى، ذلك الذي تقومه العدالة ويفسده الجور…؟ -أقريطون: كلا ولاشك.. -سقراط: إذن فلا ينبغي أن نأبه لما يقوله الجمهور عنا، إنما يجب أن نصغي لحكم الحقيقة…”، بهذا الكلام يكون سقراط، قد نبه إلى عدم الاهتمام برأي العامة في مجال البحث عن الحقيقة، لأن الحقيقة تقوم على العقل المنطقي وليس على الانطباع الحسي الذي يستند إليه الرأي، بهذا القول يكون فلاسفة اليونان قد أسسوا للأطروحة القائلة بالتعارض بين الرأي والحقيقة.
وقد سار على هذا النهج كل الفلاسفة المسلمين، ابتداء من الكندي إلى ابن رشد، مرورا بالفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل، الذين كانوا في محاولة تأسيسهم لثقافة جديدة مبنية على العقل داخل المجتمع الإسلامي، يواجهون الثقافة السائدة لدى عامة الناس، المبنية على الحس المشترك.
-
الفيلسوف روني ديكارت:
يذهب “ديكارت” إلى أن الكثيرمن معارفنا المكتسبة من المجتمع تستند بالأساس إلى مُدركَات الحواس التي تخدعنا ولا يمكن الثقة بها مطلقا. ولهذا يجب أن نعمل على إعادة النظر فيها بصفتها جملة من الآراء المُسبقة أو الأحكام المرسلة (des préjugés)، وذلكـ بممارسة نوع من “الشكـ المنهجي” الذي يتوخى بناء معرفة حقيقية بعيدا عن الرأي العام، هكذا تكون الفلسفة الحديثة قد دشنت قطيعتها مع الرأي، وبنت الحقيقة على العقل الذي يشك في كل شيء إلا ذاته، لأنها تحمل اليقين المطلق الممثل في الكوجيطو Le cogito: ” ” أنا أفكر، إذن أنا موجود “Je pense donc je suis”.
-
الفيلسوف ايمانويل كانط:
وبصدد علاقة “الاعتقاد” بالحقيقة يصنفه “إيمانويل كانط” إلى ثلاث درجات: “الرأي” و”الإيمان” و”المعرفة”. فـ”الرأي” اعتقاد يُدركـ أنه غير كافٍ لا ذاتيا ولا موضوعيا، في حين أن “الإيمان” اعتقاد كافٍ ذاتيا وليس موضوعيا، أما “المعرفة” فهي ذاتُ كفايةٍ ذاتية وموضوعية. وتُسمى الكفايةُ الذاتيةُ “اقتناعا” (من طرفي أنا وحدي)، بينما تُسمّى الكفايةُ الموضوعيةُ “يقينا” (بالنسبة لكل واحد). ومن هنا، من السُّخْف تكوين آراء في المعرفة الرياضية أو الأخلاقية التي تقوم على “اليقين”.
-
الإبستمولوجي غاستون باشلار Gaston BachelardM :
ينطلق الإبستمولوجي “غـاستون باشلار” من تاريخ العلم ليؤكد أن العلم لا يبتدئ بـ”حقائق أُولى” أو “مبادئ أولية وبديهية” كما كان يظن “ديكارت”، بل يُوجد في أصل كل معرفة علمية خطأٌ معرفيٌّ يجب تصحيحه. فـ”الرأي” تفكيرٌ خاطئ، بل إن “الرأي لا يُفكر”، فهو استجابة لإلحاح الحاجات العملية في بحثها عن المنفعة المباشرة، مما يجعله أكبر عائق إبستمولوجي يجب القطع معه لبناء “الحقيقة”، المعرفة وَفْق مقتضيات التفكير النظري المجرد عن كل الأغراض غير العلمية، لإن العلم لا يقوم على ما هو مُعطى وشائع، بل أساسه بناء منهجي يَهدم المُسبقات والمعرفة العامية التي هي مُستنَد “الرأي” كحس مشترك أساسه ما هو مألوف وما يبدو مفيدا في الحياة العادية يقول “لاشيء يسير من تلقاء نفسه، ولاشيء يعطى، وكل شيء يبنى ويشيد”.
-
الفيلسوف ليــــــبنــــــز Leibniz :
أما “ليبنـتـز” فقد منح للراي دورا ثوريا في مجال المعرفة العلمية إذ يرى أنه عندما لا نستطيع أن نجزم في مسألة ما بشكل قطعي، فإنه بإمكاننا أن نحدد درجة الاحتمال انطلاقا من المعطيات المتوفرة، هكذا فالرأي القائم على الاحتمال مع ليبنتز له دور في مجال المعرفة، ويستحق بالتالي أن يعتبر معرفة مادام يقودنا إلى ان نحكم بطريقة عقلانية على الجزء الأكثر جلاء، “وإلا سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية وغيرها من المعارف”.
لتوضيح موقفه هذا من أهمية الرأي يقدم Leibniz ليبنز، المثال التالي: ” لقد كان كوبونيك وحيدا في رأيه، وكان ذلك الرأي أكثر احتمالا بشكل لا يقبل المقارنة مع رأي باقي النوع البشري…”.
فالرأي إذن في نظر ليبنز ليس بالراي السيئ، كما قال بذلك باشلار، بل رأي له وزنه هو أيضا في مجال تأسيس المعرفة الإنسانية والعلمية على الخصوص، فتاريخ المعرفة تاريخ احتمالات وليس حتميات.
مطلـــــب التـــــركـيـب:
يتبين من تحليل ومناقشة اشكالية علاقة الحقيقة بالرأي، أن الرأي كتصديق بوقائع وبأفكار لم يخضع للفحص العقلي الرزين للتأكد من صحته أو خطئه هو على الطرف النقيض من الحقيقة كصدق وصواب، مؤسسة على مبادئ تم التحقق من صدقها وصوابها بمناهج اختبارية تتأسس على التجريب والصياغة الرياضية، حقا أن أحيانا يمكن أن نعثر داخل هذا الرأي كحكم شخصي أو جماعي على عناصر ايجابية يمكن اعتمادها لتأسيس الحقيقة، لكن تداخل آراء متعددة داخل هذه العناصر، قد يجعل القبول بها أمرا مشكوكا فيه، ذلك أن داخل هذا الرأي يمكن العثور على آراء باطلة. ونظرا لصعوبة التمييز بين الرأي الصحيح والباطل، يصبح من غير الممكن اعتماد الرأي كمنطلق لتأسيس الحقيقة، وهكذا تصبح الحقيقة هشة ومشكوك في وجودها، إذا ما أخدت بوصفها مجرد رأي صادر عن معتقد خاص.
والذي يزيد من تأزيم وضعية الراي وعدم قابليته لتأسيس الحقيقة، وخاصة في عصرنا الراهن هو أولا، تعدد الحقائق بتعدد مجالات انتاجها، بحيث يمكن الحديث في هذا الإطار عن حقيقة علمية وفلسفية ودينية واقتصادية وسياسية واجتماعية.. فأي رأي هذا يمكن أن يصلح لتأسيس هذه الحقيقة، أو على الأقل حقيقة واحدة، ما دام يصعب التمييز داخل المعرفة العامية بين الرأي الصحيح والخاطئ منه؟
ثانيا بجانب هذا التعدد للحقائق هناك في المقابل تعدد وتنوع للأيديولوجيات، أي القناعات الفكرية الخاصة لدرجة يمكن القول أن هذا العصر عصر ايديولوجيا. لهذا يلاحظ أن مؤسسات محلية أو دولية تعمل حاليا على صناعة الرأي وجعله بوسائل الدعاية والإعلام، لأهداف سياسية واقتصادية، الرأي الأكثر مصداقية وقبولا، ليس فقط من طرف عامة الناس، بل من طرف مؤسسات ذات الإختصاص العلمي.
وعن هذه الصناعة في العصر الراهن، تحدث العديد من المفكرين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، العالم اللساني الفرنسي المعاصر رولان بارت ففي مؤلفه بعنوان تحدث بارت عن صناعة الرأي، وشبهه بصناعة الاساطير، والمعروف عن الأساطير أنها تحمل في طياتها الخرافة والوهم، وهي عناصر مناقضة للحقيقة، وسبب إلتجاء الإنسان المعاصر لهذا النوع من الأساطير هو في نظر بارت حاجة للوهم ليعينه على العيش والتكيف والتواصل.
المحور الثاني: معايير الحقيقة
-
الإشكالية:
– إذا كانت الحقيقة هي مطابقة الفكر لموضوعه، فما طبيعة هذا الموضوع الذي يطابق الفكر ويعبر عن الحقيقة؟ بمعنى آخر ما معيار “الحقيقة”؟
-هل هو معيار واحد أم معايير متعددة؟
-وكيف يمكن التمييز بين “الحقيقة” و”اللاحقيقة”؟
-هل بالاستناد إلى معايير واقعية مادية وموضوعية أم معايير صُورِيَّة وذاتية؟
– وهل معايير الحقيقة كُّلـية ومطلقة أم أنها جزئية ونسبية؟
في الغالب، تُميَّز “الحقيقة” عن أضدادها (“الخطأ”، “الكذب”، “الوهم”) بالاستناد إلى معايير محددة، و والمعيار Le critère هو كل ما يعير به، أي يقاس به غيره ويسوى، إنه المقياس والمرجع الذي تميز وتصنف به الأشياء والمفاهيم، وبه نحكم على قضية ما أنها صحيحة أو خاطئة.
الفلسفة العقلانية:
يجيبنا الفيلسوف “ديكارت” أن معيار “الحقيقة” هو بداهتها المؤسسة على العقل لا الحس المشترك، والبداهة العقلية تجعل الحقيقة تتميز بالوضوح الذاتي الذي يميزها عن كل ما يُمكن الشكـ فيه، مما هو مَبْنِيّ على مُعطيات الحس الخارجية التي لا يمكن الوثوق بها، Cogito Ergo Sum أنا أفكر إذن أنا موجود je pense donc je suis، تفكيري دليل وجودي، هذه حقيقة بديهية واضحة لا لبس فيها ولا غموض.
ويتجاوز “باروخ اسبينوزا” هذا الطرح ليعلن أن الحقيقة لا تحتاج إلى من يكتشفها أو يؤكدها لأنها تفرض ذاتها بوضوحها التام، فهي تشير إلى نفسها بمطابقة الفكر لموضوعه، أي احترام الفكر لمبادئه، وبالتالي تحمل معيار صدقها في ذاتها وخطأ ما يخالفها. “فكما أنه بانكشاف النور ينقشع الظلام، فالحقيقة معيار ذاتها ومعيار الخطأ”.
غير أن “ليبنتز” يُلاحظ أن القول بالأفكار الواضحة والمتميزة أي اعتماد البداهة ليس معيارا كافيا، إذ لا بد من تحديد مُؤشرات لصفتي “واضحة” و”متميزة”، وبالتالي فإن حقيقة الأفكار تستند إلى “البُرهان”، يقول:” إن ديكارت أسكن الحقيقة في دار ضيافة البداهة، ولكنه أهمل أن يعطينا عنوانها”، إذ كيف يمكن التمييز بين البداهات الصحيحة والبداهات الخاطئة ؟ هنا بالذات كان لا بد من معيار ضروري، إذ كثيرا ما توفر الأهواء والأحكام المسبقة والتقاليد، صورا أخرى للبداهة، ونحن عادة ميالون إلى اعتبار الآراء المألوفة لدينا، وتلك التي تعودنا عليها واضحة وبديهية، وبناء عليه تصبح البداهة عائقا أمام بلوغ الحقيقة.
الفلسفة التجريبية:
يؤكد “دافيد هيوم” أن “الحقيقة” نوعان: صورية ومادية، الأولى معيارها الخُلُوّ من التناقض بين الأفكار (كما في المنطق والرياضيات)، والثانية معيارها مُوافقة الأحكام لموضوعاتها الخارجية، وبخصوص ارتباط الحقيقة بالواقع يؤكد “جون لوك” أن الحقيقة تقتضي العودة إلى الفحص التجريبي، للتأكد من صحتها، فالتجربة الحسية هي المصدر الوحيد لبلوغ الحقيقة، ويرفض البداهة العقلية كمعيار للحقيقة، يقول “العقل صفحة بيضاء تأخذ التجارب عن طريق الحواس بالكتابة عليها”.
-
الفيلسوف إيمانويل كانط:
أما مؤسس الفلسفة النقدية “كانط” يرى أن مشكلة معيار الحقيقة تقود إلى التمييز بين الجانب “المادي/الموضوعي” و”الجانب الصوري/الذاتي” في المعرفة، ويجيب عن التساؤل – هل معيار الحقيقة كُلِّيٌّ ومادي أم أنه معيار كُلِّي وصوري؟ بالتأكيد على أن “الحقيقة” ليس لها معيار مادي وكلي، لأن ما هو مادي يتصل بموضوع خاص، ممّا يُوجِب الاتفاق بين المعرفة وموضوعها، في حين أنه عندما يتعلق الأمر بالحقيقة الصورية، فهناكـ بالفعل معايير كلية ومطلقة لأن هذا النوع من المعرفة تكون فيه المطابقة بين الشيء وذاته، أي أن العلاقة داخليّة تقوم على المعايير المنطقية للفهم والعقل، يقول “المعايير الصورية والكونية للحقيقة ليست سوى المعايير المنطقية والكونية التي تقوم عليها المطابقة بين المعرفة وذاتها”.
الاتجاه البراغماتي:
قدَّم وليام جيمس William Games في كتابه “البراغماتية” تأكيدا على أن الحقيقة ليست كامنة فيما يوصلنا إليه العقل، ولا فيما تقدمه التجربة، ولا هما معا، وإنما الحقيقة هي فيما يحقق المنفعة، إنها بصفة عامة مرادفة للنجاح، يقول وليام جيمس: “إن كل ما يؤدي إلى النجاح فهو حقيقي، وأن كل ما يعطينا أكبر قسط من الراحة، وما هو صالح لأفكارنا ومفيد لنا بأي حال من الأحوال فهو حقيقي” فالفكر معلق بالعمل، فلا فائدة إذن في التصورات العقلية التي لا تقدم أي فائدة، وإذا كانت الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع، فيجب أن ننظر إلى هذا التطابق نظرة جديدة: إن الحقيقة ليست شيئا معطى مع الفكرة، بل هي تكتسب حقيقتها بالعمل الذي تؤديه، والمنفعة التي تحققها، والإنسان الذي يملك أفكارا صحيحة يملك وسائل صالحة للعمل، فكلمة حقيقة “لا تعني شيئا آخر غير بعض النتائج العملية التي تحقق نفسها” فالمعيار الذي نقيس به صدق أو حقيقة فكرة ما هو المنفعة. ففي ميدان التجربة الطبيعية الحقيقي هو كل ما يحقق فائدة، بل كل ما يدفع إلى العمل من أجل النجاح، وفي ميدان الحياة النفسية والعقلية يعتبر حقيقيا كل ما يفيد الفكر، وكل ما يمنحنا الطمأنينة الفكرية، وفي الميدان الديني تكون المعتقدات حقيقية، إذا نجحت في الميدان الروحي، أي إذا ساعدتنا وأفادتنا في التجارب الحياتية، وارتفعت بنا إلى أعلى من أنفسنا.
-
الفيلسوف ميشيل فوكو Michel Foucault :
يرى ميشل فوكوM.Foucault “أن الحقيقة من هذا العالم تنتج فيه بفعل إكراهات متعددة، ولها في هذا العالم سلطة ذات تأثير منتظم…”، معنى هذا أن معيار الحقيقة هو السلطة، إن الحقيقة لا توجد خارج السلطة، بل إنها ذاتها هي السلطة لأنها نتيجة إكراهات متعددة.، فلا يمكن فهم الحقيقة خارج منظومة السلطة، فليس –يقول فوكو-نشاط الذات العارفة هو الذي ينتج معرفة حقيقية مفيدة للسلطة ومتمردة عليها، بل إن السلطة والعمليات والصراعات التي تخترقها والتي تتشكل منها، هي التي تحدد الأشكال والمجالات الممكنة لمعرفة الحقيقة، من هنا يمكن أن نفهم سبب هيمنة الحقيقة العلمية في المجتمعات المعاصرة، نظرا للسلطة التي أصبح يملكها الخطاب العلمي بالمقارنة مع الخطاب الديني والفلسفي.
تكشف رؤية فوكو عن طبيعة العلاقة بين الحقيقة والسلطة، وكيف تصبح الحقيقة بدورها سلطة، فالحقيقة المعترف بها هي التي ترعاها دوائر السلطة، والطابع المؤسساتي هو الذي أصبح يطغى اليوم على مفهوم الحقيقة سواء على مستوى شروط وكيفيات إنتاجها أو في طرق ووسائل تداولها وترويجها، مما يؤدي إلى وجود صراع حول الحقيقة وهو لا يهدف إلى الحد من سلطوية الحقيقة بل يتوخى إبعاد الحقيقة عن أشكال الهيمنة التي يمكن أن تؤسسها خطابات أخرى حول الحقيقة التي تتبناها السلطة.
مطلــــــب التـــــركـيـب:
من خلال مناقشة اشكالية معايير الحقيقة أي التساؤل حول طبيعة المعايير التي تتحدد بها الحقيقة وتتميز بها عن ما ليس حقيقة. نجد تعدد حول معاييرها وتنوعها إذ نجد أنفسنا أمام المعيار العقلي، المعيار التجريبي، المعيار النفعي، المعيار السلطوي وهذا يقودنا على النتيجة التالية: الحقيقة نسبية ومتعددة ومختلفة فمعيار البداهة يعتبر يقول عنه جون أولمو: “إن أكبر العقبات التي تعرقل سير التقدم العلمي كان هو الثقة العفوية في البداهة والحدس” أما بالنسبة لمعيار المنفعة فتبقى مجموعة من الأسئلة عالقة حوله: هل المنفعة فردية أو جماعية؟ هل ما هو نافع لشخص أو بلد نافع لباقي الاشخاص والبلدان الأخرى؟ هل غزو العراق وتخريب حضارته وتشريد أبنائه وتأجيج النعرات الطائفية مفيد للعراقيين؟ هل ما يكون نافعا في وقت ما يظل نافعا في وقت آخر؟ فدوران الشمس كان فكرة نافعة رغم خطئها. وخليفة الله في الأرض كانت نافعة لبعض الحكام رغم ما كانوا يلحقونه من الم واستبداد بالعباد.
المحور الثالث: الحقيقة بوصفها قيمة
– تدل القيمة valeur على الميزة الخاصة بشيء أو فكرة أو سلوك إنساني مرغوب فيه، إنها كل ما يرغب فيه الإنسان ويفضله، ويتخذه مثلا أعلى يسعى نحوه عن قصد أو بغير قصد، سواء على مستوى الفكر النظري أو الممارسة العملية أو على مستوى السلوك الأخلاقي، فما الذي يمنح الحقيقة قيمة ويجعلها شيئا مرغوبا فيه من طرف الجميع؟
-
الإشكالية:
-هل هي غاية في ذاتها أم أنها وسيلة لبلوغ شيء آخر؟
– وهل تتحدد قيمتها على نحو نظري مجرد أم على نحو عملي وأخلاقي؟
– بمعنى هل تنبع قيمة الحقيقة من مكانتها الأخلاقية كفضيلة ينبغي التشبث بها أم من خلال ما تحققه من فائدة عملية ومنفعة؟
-
موقف الفيلسوف أرسطو Aristote :
قول المعلم الأول أرسطو إن العلم الذي نختاره لنفسه، ولا لغاية سوى المعرفة، يكون فلسفيا أكثر من ذلك الذي نترجى منه معرفة، فإذا كان الفلاسفة الأولون قد تفلسفوا كي يخرجوا من الجهل فمن البين أنهم اهتموا بالعلم من أجل المعرفة، لا من أجل منفعة ما”. تشكل الحقيقة عند أرسطو في المعارف والعلوم “قيمة في ذاتها” فهي الغاية والمبتغى المقصود، ولا غاية سواها، إن بلوغ الحقيقة بهذا المعنى هو وحده هدف البحث عن الحقيقة وهدفه الاسمى والكامل.
هكذا كان فلاسفة اليونان يعتبرون الفلسفة محبة الحكمة لذاتها بعيدا عن أي منفعة مادية أو معنوية، أي البحث عن الحقيقة حبا في الحقيقة ذاتها، لا في أغراض ومنافع أخرى. يضفي أرسطو على الحقيقة قيمة معرفية نظرية.
-
تصور الفيلسوف فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche :
-
يربط نيتشه الحقيقة بمتطلبات تطور الحياة باعتبارها قيمة وجودية في خدمة الحياة ونموها وتطورها فهي نوع من الخير الذي يرغب فيه كل الناس، مما يجعلها تبدو كنوع من “الغريزة” لذلك اعتبر نيتشه من طرف بعض مؤرخي الفلسفة طريقا نحو التصور البرغماتي لأنه يربط الحقيقة بتطور النوع الإنساني في حين تربطها البرغماتية بالحياة اليومية العملية.
يتساءل “فريدريك نيتشه” عن أصل هذه الغريزة: من أين تأتي غريزة “الحقيقة”؟
إن تحديده لماهية الحقيقة ظل مرتبكا، إذ لم يقدم جوابا مباشرا عن معيار الحقيقة، بل اعتمد منطقه التجذيري الـتأصيلي الجينيالوجي ليبحث في أصل الحقيقة فيجده نقيضها إن أصل الحقيقة وهم، خلقه الإنسان في لحظة ضعف وطلب للسلم فرضته الحياة الاجتماعية والشرط التاريخي وفرضه الإنتقال من حالة الغاب من أجل حفظ البقاء. ممّا يجعله يبحث عن كل الوسائل التي تضمن بقاءه، وهذا ما يُؤدي إلى تسويغ الكذب والخداع والنفاق وكل ما يُضادُّ “الحقيقة”. وزين هذا الوهم بسلسلة لا متناهية من الصور الشعرية والمجازات والإستعارات البلاغية كي يكون ذا مظهر مقبول، ففي البداية أدرك أنه يوهم نفسه لكن المراس ومرور السنوات جعله ينسى ذلك. فأصبح ينادي بالحقيقة وشعارات القيم الأخلاقية، وكأن الأمر لا يتعلق في الأصل بمجرد وهم وأوثان صنعها وبناها الإنسان كي يعبدها فنسي أنه صنع يده في بداية الأمر.
الإتجاه البرغماتي:
يؤكد الفيلسوف الأمريكي “وليام جيمس” ضمن “فلسفة العمل/الممارسة” (Lepragmatisme) إلى أن “الحقيقة”، كخاصية للأفكار في مطابقتها للواقع، ليست نُسخةً مطابِقة للأصل الواقعي أو خاصيةً ثابتة مُلازِمة للأفكار، وإنما هي “حدث” و”صيرورة”.
إن “الحقيقة شيءٌ يَحْدُث للفكرة من حيث إنها تصير حقيقية، أي أن الأحداث هي التي تجعل الفكرة حقيقية” وبالتالي فصلاحيتها مرتبطةٌ بفعل إثبات صدقها وصوابها، ومنه فـ”الحقيقي” هو “المُفيد” و”النافع” عمليّا، أي كل ما من شأنه أن يساعد الإنسان على النجاح العملي بشكل ناجع في الحياة، ولهذا فإن امتلاكـ “أفكار حقيقية” معناه امتلاكـ أدوات ناجعة للعمل، وإذا كانت “الحقيقة” تفرض نفسها كواجب، فليس بفعل قوة ما، حتى لو كانت قوة العقل نفسه، وإنما لأن هناكـ مُبرِّرات عملية قوية تجعل القيمة العملية للأفكار مبنية على المنفعة الفعليّة التي تكتسيها في نظرنا مواضيعها. وبالتالي فقيمة الحقيقة في ما تحققه من منفعة ومصلة في الواقع والعكس صحيح ويمكن تلخيص الخصائص العامة لهذا المذهب في النقط التالية:
– الفكرة الحقيقة هي الفكرة الصالحة والمفيدة.
– القول بالحقيقة من أجل ذاتها أو الحقيقة المطلقة هو قول عتيق وعدو لذوذ للحقيقة.
– امتحان قيمة الافكار يعود إلى اختبار أثرها وفائدتها وقوتها.
-
الفيلسوف إيمانويل كانط Emmanuel Kant :